هل يعصف “حزب الله” بعقول الأطفال في لبنان؟
روج لنشيد إيراني أثار الاستهجان وسعى لتوطين مفاهيمه عبر ألعاب تكنولوجية وأنصاره يعدونها تعبئة تربوية للأجيال المقبلة
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
سوسن مهنا
لا وجود لبلد في العالم يشبه الدولة اللبنانية، إذ تتوزع طوائفها على شكل لوحة، ولكن فسيفسائية، لا يمكن أن تتوحد. حتى اليوم، لم يتفق شركاء الوطن على كتاب تاريخ موحد يقدمونه في المناهج التربوية. أيضاً، هناك مدارس ذات طابع مذهبي، أي مدارس مسيحية (بمذاهبها) وسنية وشيعية ودرزية، ولا تخضع نشاطات هذه المدارس إلى رقابة وزارة التربية اللبنانية، حيث تمتلك مطلق الحرية في ما تختاره من نشاطات. ولطالما كان التعليم في لبنان “دينياً”، ويعود هذا إلى حقبة سيطرة الدولة العثمانية، حيث كان التعليم مقتصراً على الكتاتيب والجوامع، وكان الطلاب يدرسون القرآن والفقه واللغة العربية. من ثم، ومع بدء القرن الثامن عشر، بدأت المدارس التابعة للإرساليات الأجنبية بالانتشار، وكانت تبشيرية بمعظمها، وأرسل كثير من العائلات المسلمة المقتدرة مادياً أبناءها إلى تلك المدارس.
وتنص المادة العاشرة من الدستور اللبناني، على أن “التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب. ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية”. أما وثيقة الوفاق الوطني، أو “اتفاق الطائف” 1989، فتنص على أنه “تأميناً لمبدأ الانسجام بين الدين والدولة، يحق لرؤساء الطوائف اللبنانية مراجعة المجلس الدستوري فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني”.
إذاً، تبعاً لمواد الدستور يحق لكل طائفة تأسيس مدارسها الخاصة، حيث تستقبل أبناءها، مع استثناءات، بخاصة مدارس الراهبات التي تعد مقصداً لعديد من الطوائف لجودة التعليم فيها، بالتحديد اللغة الفرنسية، لكن هناك مدارس تشترط أن ينتمي الطالب لطائفة المدرسة، حتى يتم قبوله ضمن صفوفها، كالعرفان التوحيدية، والمهدي الشيعية، ومدارس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، وغيرها، ومن هنا يبدأ الفرز الطائفي.
“إمام زماني: سلام يا مهدي”
قد تكون المدارس الدينية متشددة من حيث استقبال الطلاب والمناهج والنشاطات، وحتى في إقامة الصلوات، كل طائفة بحسب تقاليدها المتبعة، وحتى أحياناً العُطل، بحسب تقويمها الخاص، لكن ما يميز مؤسسات مدارس ومؤسسات “حزب الله” أنها نظام كامل ويذهب بعيداً جداً من التعليم.
في الأيام القليلة الماضية انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لنشيد يحمل عنوان “إمام زماني: سلام يا مهدي”، أو “سلام فرمانده”، سرعان ما وضح أنه إيراني تُرجم إلى العربية مع الحفاظ على لحنه “الفارسي”، واستنفر “حزب الله” كل وسائل إعلامه السياسي والديني للعمل على الترويج له، وعمل مناصروه بالرد بالتهذيب أحياناً، وبأشد عبارات القدح والذم والتكفير والتشهير أحياناً أخرى كثيرة، على كل من تجرّأ وانتقد الفيديو على وسائل التواصل.
وكان قد سبق ذلك مشاهد فيديو أيضاً لمئات الأطفال يصطفّون في أربع مجموعات بـ”الحي الأبيض” في ضاحية بيروت الجنوبية، ويؤدون النسخة العربية من النشيد الإيراني، ما دفع بسكان المنطقة إلى التذمر والسؤال عن سبب إقفال منطقة “الحي الأبيض” في الصفير، ليتبين أن سبب الإقفال عائد لتصوير نشيد “سلام فرمانده”، وهو نشيد إيراني معروف، يؤديه الإيرانيون كتحية للإمام المهدي، وينتشر في سائر مدن وقرى إيران، كما راجت فيديوهات للتحضيرات لفعاليات إنشاد النشيد النسخة اللبنانية في مدينة الإمام الخميني الشبابية الكشفية التابعة لجمعية كشافة المهدي في مدينة زوطر الجنوبية.
“حزب الله” نهج ومشروع
صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية نشرت في مقالة بعنوان “مؤسسة (حزب الله) تستند إلى عنصر الشباب”، في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2008، أنه “في الوقت الذي يشهد فيه العالم الإسلامي موجةً من الإحياء الديني، يكون من الطبيعي أن يظهر الورع بين الشباب، أما في لبنان، فتمكن (حزب الله) من تعبئة تلك الطاقات في مشروع سياسي مهم، إذ يدربهم الحزب على الاستمرار في الكفاح المسلح ضد إسرائيل. وجعلت مرونة (حزب الله) في أرض المعركة منه نموذجاً تحتذيه الجماعات المسلحة الأخرى في الشرق الأوسط، بينها حركة (حماس)”.
وأضافت الصحيفة، “كما يرجع النجاح الذي حققه الحزب، والذي ليس بقليل، إلى برامج التجنيد الشاملة غير المعتادة التي يتبعها الحزب، والأعداد الغفيرة من الشباب الذين يقودهم الفكر الديني. وتوجد شبكة كبيرة من المدارس، يدير (حزب الله) بعضها، أما المدارس الأخرى فإما أنها تنتسب إليه، وإما يسيطر الحزب عليها، وهي محمية بصورة كبيرة من تسلل دخلاء، كما تتوافر أيضاً شبكة علماء وأئمة يعمدون إلى تقديم الدروس الدينية للشباب، كل في منطقة معينة”.
وأوضحت، “هناك أيضاً مجموعة تلاميذ وطلاب في المدارس والكليات غير المنتسبة إلى الحزب يقدمون فكر الحزب إلى الجماهير العريضة. وينظم الحزب أيضاً معسكرات صيفية لا تتبع الكشافة، ورحلات ميدانية، وخلال العطلات الدينية الإسلامية، ينظم الحزب أعمالاً تحفز الشباب على إظهار ولائهم له علناً مع القيام بالأعمال الخيرية”.
وتابعت، “من العسير قياس مدى تأثير ونفوذ (الحزب) على الشباب اللبناني، وهذا مرده إلى التكتم الشديد للحزب، وغياب الإحصاءات التي يمكن التعويل عليها في البلاد. وأعدّ (حزب الله) وحلفاؤه أيضاً طقوساً دينية يؤديها الأطفال، منذ نعومة أظفارهم، كما تعد النساء أيضاً من الكوادر بالغة الأهمية على وجه الخصوص في خلق ما يسمى (الجو الجهادي) بين الأطفال، وهن يلعبن دوراً بارزاً داخل “الحزب” أكثر مما تفعل نظيراتهن في أغلب الجماعات الراديكالية الأخرى”.
مدارس المهدي
تُعرّف مدارس المهدي نفسها على موقعها على الإنترنت بالقول، “تطمح رؤية المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم للسنوات العشر المقبلة (2018-2028) أن تكون قد قدمت نموذجاً تربوياً أصيلاً متقدماً، وتمكنت من توفير بيئة تربوية جاذبة وآمنة، وصاغت رؤيتها للتربية والتعليم واستكملت وثائقها المرجعية في جميع المجالات، بالاستناد إلى المباني والأصول التربوية الإسلامية، وأنجزت مناهج الحياة الطيبة، وأنشأت مركزاً متخصصاً بتقديم خدمات التدريب والاستشارات التربوية. وطورت منظومة جاذبة للبرامج والأنشطة التربوية الموازية، واعتمدت منظومة فعالة للتكامل مع الأهل. وتميزت بمدارس مقيمة للصلاة ومزدهرة ببرامج تعليم القرآن واللغة العربية، إضافة إلى إنشاء مركز متخصص للتشخيص التربوي”.
من جانبها، تولت قناة “المنار” التابعة لـ”حزب الله” نقل فعاليات الفيديو من مختلف المناطق اللبنانية بعنوان، “كلمات نشيد “سلام يا مهدي استوطنت أعماق قلوب الأجيال وتضمنت بعداً اجتماعياً وتربوياً كبيراً في نفوسهم”.
ولكن في تقرير لها صدر 5 يوليو (تموز) الحالي، يتحدث أحد الشيوخ ويقول، “إن مشهد هؤلاء الأطفال يعد معجزة، ارتباط هذا الطفل الصغير وبكل عفوية بدموع بحرقة بصرخة برفعة يد، إلى الأخت التي تحاول المحافظة على حجابها وهي ترفع يدها وتنادي. نحن نرى أن هؤلاء الأطفال هم المقصودون من خلال هذا النشيد الذي أراده الإمام القائد، ووصلت الرسالة. والآن ستصبح شعاراً مقابل كل دعوات التحلل من الأخلاق ودعاة المثلية، وكل الحروب الناعمة التي تشن علينا، فعلاً نحن اليوم أمام انتصار جديد، يجب أن نحافظ عليه ونتقدم فيه إلى الأمام”.
ومن الأثر التربوي والبعد النفسي في حياة هذه الأجيال وعلاقتها بالإمام المهدي، تتحدث المتخصصة بعلم النفس، نسرين نصر، وتقول، “إن ارتباط الأطفال بهذه الأماكن العظيمة حيث ينادون بصوت واحد سلام يا مهدي، ولقد رأينا ذلك عبر الدموع والانفعالات والإحساس الصادق، كل ذلك بسبب أن الأطفال شعروا أن الإمام موجود وجاهز أن ينقذهم بأي لحظة هم بحاجة له، ويعتبر هذا الشعور سوياً جداً على الصعيد النفسي”. وتضيف، “استطعنا أن نقول لكل العالم على الرغم من من ارتباط أطفالنا بوسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي نحن نستطيع بالقيم والمبادئ والأمور الدينية أن نعيدهم، وأن نخلق لهم هدفاً من جديد”.
ويوضح مسؤول العلاقات الإعلامية في “حزب الله” محمد عفيف، لـ”اندبندنت عربية”، في رد عما قيل في الإعلام إن نشيد “سلام يا مهدي سيتحول شعار مدارس المهدي، أن المهداوية والإمام المهدي المنتظر جزء من عقيدة الشيعة منذ 1500 سنة الإيمان بالعدل المنتظر، كما في باقي الأديان، حيث إن المسيحيين جزء من عقيدتهم نزول المسيح عليه السلام. أما بالنسبة لهذا النشيد فإن خامنئي طلب من الناس نشيداً موجهاً للأطفال، فكان هذا النشيد الذي حقق نجاحاً كبيراً. بداية كان في البحرين، ومن ثم في لبنان، حيث ترجم إلى العربية، وصور وانتشر انتشاراً كبيراً”.
ويستنكر عفيف ما يتردد عن غزو ثقافي وغسل لعقول الأطفال. ويقول إن “هناك مطربين لبنانيين كثر غنوا ويغنون بالفرنسية ولغات أجنبية واللهجة الخليجية، فنقول عنهم إنهم وصلوا إلى العالمية، فما الفرق إذا غنى مطرب لبناني النشيد باللحن الإيراني؟”. وعن تحول هذا النشيد إلى شعار مدارس المهدي، يوضح “أنه لا يعلم أن كان سيصبح شعاراً لمدارس المهدي، وما الضرر إذا تحول؟ فالمدارس وجمعية الكشافة اسمها المهدي”.
“الدفاع المقدس”
ليست المرة الأولى التي يثير فيها “حزب الله” الاستهجان من خلال فعالياته، عام 2018 كان قد أطلق لعبة فيديو باسم “الدفاع المقدس”، وتحمل شعار “حماية الوطن والمقدسات”، حذفت في ما بعد من قبل شركة “غوغل”. واللعبة كناية عن مطلق نار ثلاثي الأبعاد، يدعو اللاعبين إلى الدفاع عن المقامات الشيعية في سوريا ولبنان ضد حشود مقاتلي “داعش”. هذه اللعبة تدافع عن مشاركة قوات شبه عسكرية مدعومة من إيران في الحرب السورية في عام 2013. وتتحدث عن تسلل “أحمد” إلى معسكر “داعشي” في محيط الحجيرة لإنقاذ السجناء والرهائن المحتجزين لدى التنظيم في أحد منازل منطقة القصير الحدودية مع لبنان، قبل أن تجتاح المعركة الكبيرة البلدة. ويشارك أحمد في معركة “القصير”، ثم يلقي القبض على العقل المدبر للتفجير الانتحاري المزدوج الذي أودى بحياة 46 شخصاً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 في ضاحية بيروت الجنوبية. وينتهي به المطاف كقناص في كمين نصب ضد إحدى مجموعات “داعش” التي كانت تخطط لهجوم على منطقة رأس بعلبك، في سهل البقاع اللبناني، حيث قاتل “حزب الله” في صيف عام 2017.
وكان جاك جوي، وهو أستاذ مساعد في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن، صرح لمجلة “فوربس” بأن “اللعبة بتقنياتها العالية تظهر مهارات (حزب الله) التكنولوجية إلى جانب الجهود التي يبذلها الحزب على الإنترنت”. وأضاف أن “التطبيق يشجع لبنانيين شيعة كثراً من الفئة الأصغر سناً على المشاركة في القتال، إذ يرون أنفسهم في شخصية البطل ويتخيلون أنهم يحققون تلك الأدوار العسكرية فائقة الذكاء التي يأمل (حزب الله) في النهاية توجيههم نحوها”، لافتاً إلى أن “اللعب يصبح تلقائياً نوعاً من أنواع المشاركة”. وهي ليست اللعبة الوحيدة، حيث سبقتها ألعاب كثيرة مثل “الصبح القريب”، و”العدو في المرمى” ولكل لعبة تعريف في المواقع الإعلامية التابعة للحزب ويعرف عنها بـ”إنجاز جديد للإعلام المقاوم”.
“باسيج لبنان”
من جهة أخرى، أنشأ “حزب الله” أيضاً “التعبئة التربوية”، وهي مستمدة من الثورة الإيرانية، التي يقابلها في إيران مصطلح الـ”باسيج”. وظيفة هذه المؤسسة هي العمل مع الشباب والطلاب، وتنتشر فروعها في مختلف الجامعات والثانويات، بخاصة في المناطق والأحياء ذات الكثافة الشيعية. وتُعرّف عن أهدافها بوضوح، وهي “دعم المقاومة وتعميم ثقافتها وتجذيرها ورفدها بالكفاءات المتخصصة، والتزام القضايا الكبرى للوطن والأمة”.
ويصدر الحزب مجلة “المهدي”، التي انطلقت عام 2003، وتنشر برامج الجمعية وخططها وأهدافها، وهي متخصصة بالفئة العمرية من 4 إلى 7 سنوات، و8 إلى 13 سنة، وتصدر أعداداً مخصصة إلى فئة الأعمار التي تتراوح بين 13 و17 سنة، وتتوزع على فروع “مدارس المهدي”.