لبنان بين الموت والولادة: حقائق ورهانات متناقضة
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

مأساة لبنان ليست فقط أن المافيا الحاكمة والمتحكمة دفعته إلى أزمات متعددة ومترابطة خطيرة، بل أيضاً أنها تهرب من الحلول، وما أكثر الذين يرونه على سرير الموت ويستعدون لكتابة النعي، وما أصلب الذين يؤمنون به ويبدون كأنهم يعاندون القدر، لكن البابا فرنسيس عبّر أخيراً عن الأمل في أن يكون لبنان على طريق “الولادة الجديدة”، وهو بالطبع يكمل مسار البابا يوحنا بولس الثاني، الذي قال عن لبنان “أكثر من بلد، إنه رسالة”، رسالة عيش مشترك، والسؤال هو موت أم ولادة جديدة؟ والجواب حتى إشعار آخر هو أنه لا موت ولا ولادة، شيء مثل المعجزة وسط كل أنواع العجز والمخاطر، وشيء يعيد التذكير بقول فريديريك أنغلز رفيق كارل ماركس ضمن نظريته عن”الاشتراكية الطوباوية والعلمية”، إذ قال أنغلز “في المنطق التقليدي الرجل حي أو ميت، والشيء موجود أو غير موجود، والشيء لا يمكن أن يكون في وقت واحد نفسه وشيئاً آخر، وهذا خطأ في المنطق الديالكتيكي، فمن الصعب وصف لحظة الموت بدقة، والشيء يمكن أن يكون في وقت واحد موجوداً وغير موجود”.

ذلك أن تجارب لبنان في الأزمات والحروب أكدت أن نظامه الضعيف الذي وصل غير مرة إلى الإفلاس، هو واحد من أقوى الأنظمة في المنطقة، خلال حرب لبنان التي دامت أكثر من 15 عاماً سقطت الدولة وبقي النظام، انفرط الجيش أكثر من مرة وبقي النظام، وما كان “اتفاق الطائف” الذي أوقف حرب لبنان سوى عملية تجميل لصيغة الحكم وحجم المشاركة في السلطة داخل النظام نفسه، العيش سنوات بلا موازنات وفي ظل فراغ رئاسي مرات وحكومات متصارعة من الداخل لم يؤدِ إلى التخلي عن النظام، وحتى أكبر انتفاضة شعبية سلمية عام 2019 رفعت عنوان “الشعب يريد إسقاط النظام”، فإن أركان النظام تمكنوا من تفكيك الانتفاضة والإجهاز عليها، وكانت القوة الضاربة ضد الشباب المنتفض هي القوة المرتبطة بـ”ولاية الفقيه” والمشروع الإيراني، التي ينص برنامجها على إقامة نظام جديد مستند إلى أيديولوجيا دينية.

لكن حراسة النظام هي مرحلة بالنسبة إلى هذه القوة، التي تمكنت من الهيمنة على السلطة بكل مفاصلها من دون أن تتخلى عن خطاب التسليم بالمشاركة مع القوى الأخرى، فهل جرى تجاوز المرحلة؟ الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله صار يقول بكثير من التحدي، إنه “مكلف من الله” أخذ لبنان إلى “مخاطرة محسوبة”، ولو قادت إلى حرب شاملة مع إسرائيل ضمن المواجهة مع أميركا، والشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام يستعيد مثل الحديث عن مركب يحاول أحد ركابه فتح ثغرة فيه، لكن خيار الآخرين هو “إذا أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا”، ليقول “نحن في مركب لنا ولكم، إن أردتم إغراقه فنحن لن نقبل”، ثم يهدد الشركاء بالقول “اللي طالع بإيدكم افعلوه”، وهو يعترف بأن دخول الانتخابات عام 1992 احتاج إلى “استفتاء الوالي الفقيه الإمام الخامنئي الذي أجاز المشاركة، لأن المشاركة في النظام من عدمها تحتاج إلى إجازة شرعية”، فالمسألة ليست حق العمل السياسي ولا الدستور وواجب المواطنة، بل “الفتوى الشرعية” من طهران، والظاهر اليوم أن “حزب الله” يوحي أنه تجاوز مرحلة “التطمين” إلى مرحلة “التمكين”، لكن الخيار أمامه دقيق وصعب، فلا “قناع” بعد اليوم كما في السابق عبر تفاهم مع طرف آخر على رئيس حليف له، والخيار هو إما أخذ السلطة مباشرة وإدارة نظام جديد في عزلة عربية ودولية وفي حرب داخلية دائمة مع بقية الطوائف، وإما تسوية على رئيس جمهورية من النوع الذي يسهر على تطبيق الدستور وتأمين التوازن في العلاقات الداخلية وعلاقات لبنان الخارجية.

والفرصة ضيقة إما إبعاد شبح الموت عن لبنان على أمل “ولادة جديدة”، وإما ولادة نظام آخر مناقض لطبيعة لبنان وهويته العربية وتاريخه، والرهانات ليست بوليصة ضمان للنجاح، فلكل قوة نقطة ضعف قاتلة، و”قوة الضعف مهمة” كما قال الكاتب المسرحي والرئيس التشيكي سابقاً فاتيسلاف هافل.

زر الذهاب إلى الأعلى