الدورة 56 لمهرجان قرطاج الدولي… الرّمزية التاريخيّة لا تكفي

النشرة الدولية –

النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي –

بعد عامين على غيابه، عاد هذا الصيف مهرجان قرطاج الدّولي في دورته الـ56 (مستمرّ حتى 20 آب/ أغسطس)، بعد استعداد ووعود بأنه سيكون على مستوى انتظار الجمهور الشغوف بهذا المهرجان. وكان إعلان الفنان شريف علوي عن مشاركته في الدورة الحالية بمثابة حدث أسعد كثيرين ورفع مستوى توقعاتهم.

وكانت كلمات وزيرة الثقافة التونسية حياة قطاط واعدة بدورة استثنائية، فكتبت: “برمجة دورة هذا العام مزيج بين التقاليد الفنيّة والرؤى الإبداعية المستقبلية للفنون، تخاطب جمهوراً متنوّعاً ومختلفاً بما يحمله من خلفيات ثقافية وحضارية وذائقة فنية”.

ولم يختلف كثيراً كلام مدير الدورة الحالية من المهرجان، كمال الفرجاني، حين أعلن قبيل افتتاح المهرجان عن موعد “سيرفع الستار على إبداعات مختلفة تشهد على حرّية التعبير الفني وثراء الإبداع الذي يحمل بين ثناياه رسائل عن القيم الإنسانيّة، حيث يروي الإنسان ظمأه بتعبيرات فنية ملؤها الجمال والحب والسلام”.

ولكن كيف نقرأ أمسيات المهرجان على ضوء تلك الوعود؟ وكيف كانت العودة بعد غيابه القسري لمدة عامين؟

في الحقيقة، إذا تأملنا في العروض التي قدمها المهرجان، إلى الآن، سنرى أن الواقع يختلف عن الوعود المعلنة سلفاً والتي تكرر، مع الأسف، مصطلحات تعوّد الإداريون على استخدامها، من دون إدراك لمعناها أو بتأويلاتهم.

ونحن هنا لن نثقل عليهم بمعرفة سيميائية عن إمبرتو ايكو أو رولون بارت ولن نجادلهم بمنطق الخطاب المموّه لفيليب بروتون، ونذكر من بين هذه المفاهيم “التجدد” و”الإبداع” و”الانفتاح” و”الجمال” و”الحب” و”السلام” و”الذائقة”.

ثم ما الذي علينا أن نفهمه من كلام يأتون به في خطاباتهم مثل “تقديس الفكر والمعرفة”؟ وهل الإبداع يتحقق باجترار قائمة الفنانين ذاتها، واستبعاد أو “محاسبة” آخرين؟ وقبل ذلك هل يملك مهرجان قرطاج الدّولي مشروعاً ثقافياً وفنّياً يضمن خصوصيّته؟ وهل الرّمزية التاريخية للمهرجان مفهوم ثابت؟

مشروع ثقافي
دليل واحد كاف لنبيّن أنّ المهرجان لا يندرج ضمن مشروع ثقافي: جلّ السهرات عبارة عن حفلات فنيّة قابلة لأنّ تكون في أيّ فضاء آخر عدا قرطاج، بمعنى أن المهرجان لا يشتغل على ثيمة معيّنة تلتقي حولها مختلف العروض أو الخيارات الفنية للدورة 56.
الإشكال أنّ مهندسي البرمجة لا ينطلقون من تفكير استراتيجي وسياسة ثقافيّة ومن ثمّ أهداف وعروض في شكل مشاريع. وهنا لا بدّ أن نوضّح أنّ المشروع ليس ورقة تقنية عن تفاصيل العرض.
ما الذي تبقّى من رمزيّة العلاقة بين المهرجان وقرطاج؟
الغريب هو تواصل الخطاب المدافع عن المهرجان من رمزيته التاريخية والإشادة ببرمجة ترتقي لعراقة المسرح الأثري بقرطاج وأصالته. والواقع أنّ ثمة هوّة كبيرة بين ما يقدم على المسرح ورمزيّة هذا المسرح، حتّى أنّ الجيل الجديد من الشباب لو سألناه ما معنى قرطاج أو إلام يرمز؟ سيجيب فقط مهرجان قرطاج وحفلاته. والسبب بسيط. لأننا نذكر أنّ هذا الجمهور من الشباب قد تلقّى خطاباً فنّياً يحاوره في تاريخه وحضارته ويكلّمه بلغته وبوسائطه التعبيرية عن هذه الحضارة.
لماذا يحرم هذا الشباب من جلب موسيقى جديدة ومشاريع مختلف تكسر النمطي وتجعله يبني علاقة روحية – وجدانيّة مع المكان – وهو قرطاج – من خلال بناء علاقة روحيّة وجدانية مع المحتوى المقدّم؟
لا يمكن مطالبة شاب باحترام وفهم تاريخه وتاريخ المكان والحفاظ على هويّته الثقافية إذا لم يكن هذا المكان قادراً على احتوائه بتنويعاته المختلفة.
نعتقد أنّه آن الأوان – إن لم يكن قد تأخر قليلاً – في إعادة التفكير في بعض المفاهيم وفي السّياسة الثقافية لمهرجان قرطاج الدّولي الذي يطلّ علينا من بوابة تاريخية وحضارية مهمة. ويكفي من أساطير الرقي والعبقريّة الفنية التي لم تتجاوز معانيها القوالب الجاهزة والنمطية لفكر تقليدي ما زال مسلسلاً في جلباب قديم رثّ. إنّ العبقرية والجودة الفنية والذكاء الفني مفاهيم غير ثابتة ومتحوّلة كالهويّة.
وهم التنوّع
قد نعتقد أنّ مسؤولي البرمجة يقدمون مفهوم التنوع من حيث تقديم مختلف الأشكال الفنّية، وليس التنّوع على مستوى التجارب الفنية والمخبريّة عموماً.
لهذا نرى أنّ حدود التنوّع يكمن هنا في إطار تنظيم سهرة وتريّة تليها مثلاً سهرة موسيقية إيقاعية بمنطق إرضاء كلّ الفئات العمرية. أمّا على مستوى التجديد فلا يتحقق عبر اتباع نسق الدورات السابقة نفسه ونسخ الأسماء ذاتها.
وهنا قد يجيب أحدهم: “نحن نتبع ما يطلبه الجمهور”. ولكن، أن تنفد تذاكر حفلة راغب علامة قبل أسبوع من سهرته فهذا ليس دليلاً إلى نجاح برمجة المهرجان، لأنّه فنان له قاعدة جماهيريّة كبيرة وهذا لا يبرّر لإدارة المهرجان أن تحوّله إلى علامة دالّة إلى هويّة المهرجان أصلاً ويصير حاضراً تقريباً في كل الدورات.
ولا يخرج عن هذه القاعدة صابر الرباعي كذلك. ثم ما الذي يجعل إدارة المهرجان تختار شيرين عبد الوهاب في سهرة الاختتام، بعدما انتشرت خلال السنوات الأخيرة أخبارها الشخصية وحكاياتها الخاصة على أخبارها الفنية.
وقد يتساءل أحدنا: لماذا تمّ إلغاء سهرة لطيفة العرفاوي التي كانت مقررة ليوم 18  آب/ أغسطس؟ الصحافي صلاح الطرابلسي في تدوينة أنّه: “بعدما تم الاتفاق على كل التفاصيل، ورغم أن لطيفة أكدت أنها ستغني مجاناً دعماً للمهرجان في هذه الظروف الاستثنائيّة، طالبت فقط بحقوق الفرقة الموسيقية التونسية التي ستصاحبها، لكنّ إدارة المهرجان قالت “الفلوس” غير متوفّرة”.
عن أيّ تجديد وتنوع وانفتاح؟ وأي معرفة يقدمها المهرجان حتى يستحقّ “التقديس” كما قيل في أحد الخطابات؟ لم نر اكتشافاً أو خرقاً للمألوف أو خصوصيّة للبرمجة، ما عدا بعض الاستثناءات التي يجب أن نذكرها مثل عرض “عشاق الدنيا” و”أدونيس” وبعض الفرق الشبابية.
هذا الكلام يأتي اعترافاً بأهمية هذا المهرجان، لأنّ أيّ مهرجان هو في الأساس مشروع ثقافي يندرج ضمن سياسة ثقافيّة وأهداف وخطّة وقضية يدافع عنها من خلال التصوّر العام. وهو أيضاً انفتاح على تجارب فنية ومخبرية ملهمة ومثرية للمحلّي. بل إنه حدث ثقافي يقوم على جماليّات معينة ويحمل بعداً ترويجياً وتسويقياً للبلاد وللساحة الثقافية وليس سياسة تلميعيّة.
ماذا لو كنّا استفدنا من عودة المهرجان بعد سنتين من الغياب لنجعله حدثاً مبهراً؟ ماذا مثلاً لو تمّ تنظيمه من شارع الحبيب بورقيبة وصولاً إلى قرطاج لترقص كلّ المدينة فرحاً بأنس جابر وتجوب هذه البطلة وأبطال آخرون شوارعنا برمزيتها؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى