عالم المؤثرين
بقلم: رلى السماعين

النشرة الدولية –

الدستور الأردنية –

نعيش اليوم في عالم المؤثرين. عالم فيه كلمة مؤثر أكبر كثيراً من مدلولاتها .

كي يكون المرء مؤثراً عليه أن يكون حاضراً في العالم الافتراضي الذي يُعرف أكثر بالشوشيال ميديا، ولكي يكون حاضراً، على الفرد أن يكون متوفراً بشدة في العالم الافتراضي، بمعنى أن يعطي وقتاً من يومه وحياته أكثر من غيره ويكون عنده على المواقع الرقمية الوهمية أكثر من صفحة فعّالة بشكل ملفت أكثر من غالبية الناس.

السماعين صحافية وكاتبة مختصة في شؤون حوار الثقافات والسلام المجتمعي

أن تكون مؤثراً ليس بالضرورة أن تحمل فكراً معينًا، أو تدرس سنين محددة، أو أن يكون الفرد حاصل على شهادات عُليا أو متفوقة، بل بالعكس تماماً، يمكن لاي شخص كان بغض النظر عن العمر أو اللون أو الجنس أو الخلفية أن يكون «مؤثراً» إذا كان على حسابه الرقمي فحوى! ويفضل أن تكون فحوى سريعة وبسيطة وسهلة الفهم، ويُفضل أن تكون مضحكة ومسلية، وأن تكون من واقع الشخص «المؤثر» توثق تحركاته، والاماكن التي يرتادها، وما يأكل ويشرب، ويلبس ويفكر، وعليه أن يشارك الجمهور «متابعيه» بما يحدث معه بكل دقيقة من النهار أو في غالبية وقته ، هذا كله وأكثر هو الذي يجلب اعداداً كبيرة من المشاهدات، هذا إذا كانت جميع هذه المشاهدات حقيقية، بمعنى أشخاص موجودين في الحياة الفعلية ، لان هناك متابعات وهمية يتم شراؤها بمبلغ من المال تدعم رقم المتابعات على الصفحة، وحالياً بات بالامكان لاي شخص أن يدفع مبلغاً اضافياً من المال ليحصل على تعليقات الكترونية وهمية أيضاً تعطي انطباع بأن الصفحة نشطة ومتابعة، وتعطي انطباع بأن صاحب الصفحة مهم.

في عالم الشوشيال ميديا، أو العالم الافتراضي أو العالم الرقمي، حيث الفرد فيه عبارة عن رقم، سقطت الكرامة. لا يوجد في العالم الرقمي كرامة في غالبية الاحيان إن أراد الشخص أن يكون متوفراً «ومؤثراً» وهذه حقيقة صعبة قد لا يتقبلها الجميع بنفس الدرجة-. لماذا ؟

دعوني أشارككم أولاً ما أفهمه وما تعلمته عن معنى الكرامة: بكل بساطة، خلقنا كبشر على صورة الله وشبهه، هذه بحد ذاتها هي الكرامة وعكس ذلك هو انحطاط للانسانية، وأن الانسان بقيمته واحترامه ليس من عدد المتابعين له، لانه بذلك يكون عبداً لهم لاهوائهم ورغباتهم، ويتأثر لدرجة المرض النفسي والجسدي من تعليقاتهم، إذا كانت التعليقات شرسة وقاسية، وينتعش وينتشي اذا كانت التعليقات مؤيدة ومجاملة، وتعطي سعادة لتكون وهمية ومؤقتة، غير مدرك هذا الشخص بأن قيمته من معرفته لله ومحبته وطاعته له وبالتالي ما يفعله للحفاظ على الكرامة التي اعطيت لنا.

من ناحية أخرى، في دنيا العولمة وهو الواقع الذي نعيشه ونعاينه الان، هناك علمٌ برز وتم نشره على المواقع الافتراضية المختلفة التي وُجدت من الاساس لاجله من ضمن عدة أهداف أخرى كلها تصب في بوتقة واحدة هدفها زعزعة الثوابت التي عرفها الافراد والمجتمعات وهذا العلم أطلق عليه إسم «علم التجهيل» الذي بضاعته فكرة مصَنعة وُجدت نتيجة لابحاث ودراسات علمية تم تحويلها إلى سلعة وعُرضت على المواقع الافتراضية الرقمية بتدريج مدروس ومبرمج كان من أهم نتائجها زعزعة الثوابت ونشر الشكوك، ونشر الفوضى لذلك نسمع عن الفوضى المنظمة والخلاقة، ويَكثُر الحديث اليوم عن حالة الجهل والتجهيل الذي يعاني منه غالبية المجتمعات. الذراع القوي الذي يستخدمونه هو المشاهير من العالم والبقية من الناس ما هم الا مقلدين فقط. من خلال المشاهير العالميين بالرياضة، والطب، وعالم الموضة، وعالم الطبخ، وعالم الغناء وغيرها، يتم دس رسائل منها علنية بينما غالبيتها مبطنة يتشربها العقل الباطني من دون تمحيص. الفكرة الواحدة هذه يجدها الفرد في اكثر من موقع ويتداولها بكثافة غالبية من أطلق عليهم مصطلح المؤثرون. من هذه الافكار تغيير نمط الملبس، ونشر إغراء التدخين، والتركيز بشكل ملفت على المظهر الخارجي للشخص وخاصة المرأة، نشر الكراهية بكل أشكالها، والاباحية، والمثلية، والاستهزاء بالالم، وغيرها.

في العالم الافتراضي، الرقم هو الاهم؛ رقم المتابعين على الصفحة هو الذي يحدد قيمة الانسان في زماننا الحاضر، وغالباً الرقم أهم من الانسان نفسه. في هذا العالم الافتراضي بإمكان أي شخص أن يكون مؤثراً فقط اذا كرّس وقتاً مضاعفاً وأعطى فحوى، ليس بالضرورة أن تكون مثرية بل يُفضل أن تكون هذه الفحوى من واقعه الشخصي، لذلك لم يعد في هذا العالم شيء اسمه»خصوصية»، ولم يعد للشخصيات المؤثرة حياة خاصة بهم، فهم يعرضون بالاضافة إلى تفاصيل حياتهم، تفاصيل اجسامهم أحياناً، وهذا ما يجعلهم مسليين ومرغوب بهم ومتابعين.

من ناحية اخرى، فكما السُم هو نفسه دواء للداء، هناك مؤثرون جادين في نشر التوعية من خلال الفحوى التي يقدمونها، فمنهم من نشروا المحبة وأعطوا للعطاء بعداً جديداً، وآخرون حاربوا من يزعزع الثوابت الانسانية بكشف الزيف والتصنع الذي يعطي الشعور للمتلقي بالنقص وعدم الاهمية، وهناك من نشر تعاليم ربّانية وحصد أتباع لا حصر لهم، وغيرهم من نشر توعية ضد خطاب الكراهية ، هؤلاء بجهدهم حفروا لهم مكانة في عالم وهمي لم يخلق لاجلهم.

في واقعنا اليوم، بات هذا العالم الافتراضي الرقمي جزأً لا يتجزأ من واقعنا، إعتمادنا عليه يكبر مع الساعة، فمنا مَن قرر أن يبتعد أو يستغني عنه ليرجع إليه بعد حين لغاية ما، لذا إن أردنا مجاراته علينا أن نتوقف بالنظر إلى هذا العالم الرقمي كدخيل لحياتنا أو أن ننظر إليه بانبهار ، بل نتقبله ونكون واعيين وحذرين مما نتلقاه من خلاله فهو المستقبل شئنا أم أبينا.

* صحافية وكاتبة مختصة في شؤون حوار الثقافات والسلام المجتمعي

زر الذهاب إلى الأعلى