تأمّلات إنسانية وسياسيّة في وداع…مرارتي!
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
بعد منتصف الليل، أخطّ كلماتي هذه، بعدما انشغل منتصف نهاري، بعملية جراحية انتزعت المرارة من جسدي، فأصبح كبدي من دون رفيقة عايشتْه وتعاونت معه وآزرته، منذ تكوّنا معًا في ذاك الجنين الذي كنتُه!
لا أدري، ولن أجد من يمكنه أن يدري، إن كانت الأوجاع التي تبِعت العملية الجراحية، ليست سوى صدى لمأتم مهيب أقيم في أحشائي، وانعكاسًا لحرقة الفراق، وخوفًا من مواجهة المصير نفسه.
لو كانت أعضائي تشبهني، فإنّ تفكيري هذا يصبح دقيقًا جدًا، فما انتزع “الجرّاح الأكبر” صديقًا، إلّا وأدخلني في حالة حزن وألم وحسرة.
كنتُ مرتاحًا لتشخيص الأطباء، في الأيّام القليلة الماضية، وجوب نزع “مرارتي”، بعدما “مرمرت” أيّامي، وألهتني بأزماتها المؤلمة جدًا، عن الحياة، ولكنّني، بعد “إعدامها” وجدتني أفكّر فيها، وبما قدّمته لي من خدمات كثيرة وكبيرة على امتداد ما مرّ من العمر، وهو ليس قليلًا أبدًا، إذ إنّ ما تبقى منه لن يوازي، مطلقًا، ومهما حصل، ما انقضى.
قبل العملية الجراحية كنتُ اعتبر أنّني سوف أتخلّص من مرارتي، في لعبة سطحية على الكلام، ولكن بعدها، أدركتُ أنّ الأوجاع جعلتني أُخطئ في حكمي، فهذا العضو النبيل الذي جرى انتزاعه منّي، لم يصل الى مصيره المأساوي، لأنّه خانني أو لأنّه قصّر في عمله أو لأنّه تآمر عليّ، بل لأنّه ضحّى بنفسه من أجلي فيما كنتُ أنا أُشغله بفوضى المأكل والمشرب، فأرهقته ملذّاتي التي عمل جاهدًا على حمايتي من تأثيراتها السلبية، حتى قضى.
من أطلق على هذا العضو “الهضمي” في أجسادنا، تسمية “مرارة”،كان ظالمًا، ف”المرارة”، قبل أن نُمرمر نحن حياتها، كانت تدافع عن أجسادنا، بجهدها وتفانيها وإخلاصها، في وجه كلّ مرّ.
وحالتنا اليومية مع كثير من حقائق الحياة السياسية والقضائية والادارية والمالية والاقتصادية والانسانية وغيرها، لا تختلف كثيرًا عن طريقة تعاطيّ مع “مرارتي”.
ولنأخذ وضعية لبنان الراهنة مثلًا، فكم فرح بعضنا للتخلّص من زعيم سياسي، ومن قائد عسكري او أمني، ومن مفكّر ، ومن وزير، ومن نائب، ومن اداري كبير، ومن شخصية بارزة.
لم يكن الفرح بهذه المآسي والقرارات، خبيثًا بذاته، فثمّة من أقنع بعضنا هذا، بعدما زعم أنّه “سيّد الجرّاحين” و”أقوى الجرّاحين” و”أعدل الجرّاحين”، بأنّ انتزاع هؤلاء من حياتنا، سيوقف الوجع، ويحمي الوطن، ويمنع الهدر، ويحول دون الهزيمة، ويُعيد البحبوحة، ويُحيي اليابس.
ولكن ما حصل أنّه، بعد كلّ “خلاص” مزعوم، تتضاعف المآسي وتصلب وتتجذّر وتقتلنا جميعنا.
هؤلاء الجرّاحون المزّيفون هم “المرارة” وضحاياهم لم يكونوا، يومًا، كذلك!
الجرّاح الحقيقي يفترض أن يكون مثل هذا الجرّاح الفرنسي الذي انتزع “مرارتي”، بعدما شخّص حالتي الصحيّة مع زملائه اللبنانيي الأصل.
جرّاحي هذا أفهمني، بعد العملية، أنّ ما آل إليه مصير “مرارتي” تقع مسؤوليته على عاتقي أنا، وأنّه، في حال لم أُغيّر نهجي في التعاطي مع جسدي، فمصير سائر أعضائي، بما فيها تلك التي يستحيل التعويض عنها بحبّة دواء، سيكون شبيهًا بمصير مرارتي، وأنتهي أنا!
وحالتنا الوطنية، بكل أبعادها، تحتاج الى جرّاح حقيقي قادر على أن يجعلنا نرى في الانحرافات الدستورية والسيادية والرئاسية والحكومية والنيابية والقضائية والادارية والعسكرية والمليشياوية والمالية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والبيئية، الكوارث الأخطر التي لم تأتِ بعد، ونحن، بنهجنا المنحرف، في طور صناعتها.
إنّ “مرارة” لبنان والدول التي تعاني ما يعانيه، باتت بحاجة الى جرّاح حقيقي لينتزعها، على أن يوصف لنا نهجًا، مهما كان صعبًا، من شأنه أن يحول دون أن تُلقى سائر أعضاء الوطن الحيوية المصير نفسه.
إنّ القائمة التي يحتاجها الوطن ليتعافى لا تطول أكثر من اللائحة التي يحتاجها الجسد ليتعافى، ولكن، لا بدّ قبل الانطلاق، من استبدال الجرّاحين الماهرين بهؤلاء الجرّاحين المارقين الذين إمّا أعمتهم أنانياتهم عن الرؤية السليمة، وإمّا دفعتهم انتماءاتهم الخبيثة إلى قتل الجسد الذين طالما اجتهدوا ليصبح مريضًا!
الوداع يا “مرارتي”، فخدماتك النبيلة لم تقتصر على ما بذلتيه في حياتك بل سحبت نفسها الى الدرس الذي علّمني إيّاه رحيلك.