غورباتشوف الذي اختار عقيدة سيناترا ردا على عقيدة بريجنيف
بقلم: طوني فرنسيس
الصينيون اختاروا مواجهة تجربته بتوطيد سياسة النظامين في بلد واحد
النشرة الدولية –
ليس واضحاً بدقة ما إذا كان ميخائيل غورباتشوف يعرف إلى أين سيصل في مغامرته على رأس الدولة والحزب الشيوعي السوفياتي لدى توليه المسؤولية عام 1985 وهو في الـ54 من عمره.
كانت تلك السن صغيرة جداً مقارنة بأعمار مشايخ الحزب السوفياتي الحاكم الذين تهاوى منهم ثلاثة خلال أعوام الثمانينيات الأولى، بريجنيف ثم أندروبوف ثم تشيرنينكو وبدا أن الجسم الحزبي المترهل يبحث عن نفحة حيوية بعدما شاهد وشهد الصدأ الكثيف في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية.
كان بريجنيف في نهاية أيامه عام 1981 دخل مرحلة الخرف بعد أن أعاده الأطباء “مراراً من العالم الآخر”، ولم يعش خلفه أندروبوف طويلاً ثم تشيرنينكو الذي جاء مرة إلى بيروت في مطلع السبعينيات حاملاً وساماً سوفياتياً رفيعاً إلى كمال جنبلاط.
كان مجيء غورباتشوف إلى رأس الهرم استعادة لتجربة القادة السوفيات الشباب الأوائل. لينين مات في الـ54 بعد قيادته الثورة والدولة سبعة أعوام وخلفه ستالين وهو في الـ34 ليستمر “أباً للأمة” حتى وفاته عام 1953. قبل وفاة الرجل الحديدي بعام انضم غورباتشوف إلى صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي (1952) ليرث عجزة القيادة في 1985 الذين توالوا على المغادرة تاركين النظام في أزمة اقتصادية سياسية تنظيمية وسط تحديات دولية وأميركية بلغت ذروتها في حربي أفغانستان والنجوم.
الإصلاح والمكاشفة شعاران طرحهما غورباتشوف لمواجهة واقع حزبه وبلاده، وفي السياسة العالمية عمل من أجل نظام عالمي جديد يحترم إرادة الشعوب ويفكك معسكري المواجهة النووية.
أولى خطواته الخارجية كانت الاتفاقات النووية مع أميركا والانفتاح على أوروبا والانسحاب من أفغانستان بعد حروب استمرت 10 أعوام، وفي الداخل عدل المادة الثامنة في الدستور التي تنص على قيادة الحزب الدولة.
سرع ذلك في تغيير المناخات الداخلية فانهارت سلطة البلاشفة القائمة منذ 1917، وعندما وصلت سياسة غورباتشوف الخارجية إلى ذروة أهدافها في تفكيك دول المعسكر الاشتراكي الأوروبي وإعادة توحيد ألمانيا، كان الحصان الذي يمتطيه الزعيم السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لقد وصل إلى خط النهاية في تغيير علاقة موسكو بالغرب من دون سلطة يستند إليها. انهار الحزب السوفياتي ومعه الاتحاد والمعسكر الاشتراكي أحزاباً ودولاً ومنظمات اقتصادية وعسكرية في مفارقة تاريخية عجيبة، فالرجل الذي غير بلاده والعالم وأعاد توحيد روسيا سيجد نفسه مضطراً إلى توقيع وثيقة وفاة الإمبراطورية التي قادها في مشروعه التغييري ولن ينال بعد خمسة أعوام من تركه منصبه أكثر من 0.05 من أصوات الناخبين الروس.
يأخذ كثيرون على غورباتشوف أنه لم يأخذ في الاعتبار ضرورة تأهيل حزبه لخوض السياسات التغييرية التي اختارها، فجاءت انتفاضته من أسفل إلى أعلى بدل أن تسير بالعكس، فانهار الحزب الضخم وتفككت أجهزة الأمن وفقدت البلاد قدرتها على التأثير أو الاستفادة من التغييرات العالمية التي أطلقتها قيادتها، وسرعان ما تعامل الغرب مع هذا الانهيار من موقع المنتصر فلم يبق من أحلام الزعيم السوفياتي الأخير أكثر من أحلام بو يي آخر أباطرة الصين.
كانت “عقيدة غورباتشوف” نقيضاً لـ”عقيدة بريجنيف” المتمسكة بالنفوذ السوفياتي في المعسكر الأوسع. قضى بريجنيف على ربيع براغ، لكن غورباتشوف قاد كل المعسكر والاتحاد السوفياتي نفسه إلى التفكك وقيام الدول المستقلة. قال معاونه، عضو المكتب السياسي يومها ألكسندر ياكوفليف “اليوم تبنينا عقيدة سيناترا، في تذكير بأغنيته الشهيرة My way بدلاً من عقيدة بريجنيف وهو ما يسمح لكل دولة المضي في طريقها المستقل”.
كان الانهيار عظيماً وصورة العالم الكبرى تغيرت. العالم العربي والإسلامي تأثر بالتحولات الدولية. الأحزاب اليسارية والقومية تلقت ضربة هزتها من جذورها ووجد الإمام الخميني الفرصة مؤاتية لدعوة غورباتشوف إلى “الصراط المستقيم” وخوض المعركة إلى جانبه ضد الغرب، لكن الأحداث سبقت التحليلات.
كان كل شيء في الجبهة الشرقية من العالم مغرياً لمواصلة الضغط وانتزاع المكاسب وربما القضاء على تجربة “الاشتراكية” نهائياً. في مطلع يونيو (حزيران) من اختيار “عقيدة سيناترا” 1989 اندلعت تظاهرات ساحة تيان أنمين في بكين. كانت فرصة لخصوم النظام في الصين كي يواصلوا الضغط من أجل إحداث تغييرات مماثلة كتلك الجارية في موسكو، لكن دينغ شياو بينغ وأنصاره في قيادة الحزب الشيوعي الصيني سارعوا إلى إقالة أمين عام الحزب زاو زيانغ بعد شهر على الأحداث في ساحة المدينة وتكريس خيار نظامين اقتصاديين في بلد واحد وبقيادة الحزب الواحد.
كان ذلك أول رد من داخل “النظام الاشتراكي العالمي” على مغامرة غورباتشوف ونجحت الصين في الثبات والازدهار ولم يخف قادتها أن خياراتهم هي في جانب أساس منها رد على سياسة نظرائهم الروس.
قبل 10 أعوام أثار الزعيم الصيني الحالي شي جينبينغ أخطاء غورباتشوف وقال إن عهده “شهد فشلاً في العمل التنظيمي والأيديولوجي للحزب وفقد السيطرة على القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وسيطرت ’العدمية التاريخية‘ على وسائل الإعلام، ونتيجة لذلك لم يخرج رجل شجاع واحد للدفاع عن الحزب”.
في الصين استفادوا جيداً من حصيلة “البيريسترويكا” الروسية وعشية رحيل غورباتشوف قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني عقد المؤتمر العشرين للحزب في الـ16 من الشهر المقبل وحرص شي على إبلاغ رفاقه أنه “يكفي للتعقل والاعتبار تأمل مصير الاتحاد السوفياتي”.
فاز غورباتشوف يوم مماته بشكر قادة غربيين على مساهماته في بناء “عالم حر” مشكوك فيه وبحضور زملاء ورفاق قدامى وغياب لافت لفلاديمير بوتين الذي يحمل غورباتشوف مسؤولية انهيار الاتحاد السوفياتي في “أكبر كارثة استراتيجية خلال القرن العشرين”، كان من نتائجها قيام أوكرانيا المستقلة التي ينخرط خليفة غورباتشوف في محاربتها الآن.
ربما كان الاتحاد والحزب الشيوعي السوفياتي سيعيشان فترة أطول لو لم تحل “عقيدة سيناترا” محل “عقيدة بريجنيف”، فالأخير وهو الأوكراني الأصل كان يعد الأوكراني فلاديمير شيربيتسكي لخلافته، لكن حسابات الحاشية جاءت بأندروبوف وتشيرنينكو ثم بـ”غوربي” خلال أعوام ثلاثة، ثم أطاح القائد الجديد منافسه الأوكراني في ظروف ستطيحه بعد عامين.
مات غورباتشوف، لكن تداعيات ما قام به في حياته لن تنتهي قريباً وتجربته ستستمر قيد التجاذب لسنين عدة.