غورباتشوف ظُلم في حياته ومماته
بقلم: خيرالله خيرالله
النشرة الدولية –
ظُلم ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، في حياته… كما ظُلم في مماته. لم تقم له الجنازة التي يستأهلها رجل في حجمه. شاء الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لا يزال يحلم باستعادة أمجاد الماضي السوفياتي، التغيّب عن الجنازة بحجة ازدحام في جدول أعماله.
لنضع وفاة ميخائيل غورباتشوف عن 91 عاماً، وهي وفاة حصلت قبل أيّام قليلة، جانباً، ولنفكر في حياته والمراحل التي مرّ بها الرجل منذ انتمائه إلى الحزب الشيوعي منذ كان شاباً. كلّ ما يمكن قوله، من خلال مراجعة كتب عن الزعيم الراحل وشهادات صدرت عن أشخاص عرفوه عن كثب ظهروا في مقابلات تلفزيونيّة وإذاعيّة، أن غورباتشوف كان مخلصاً للاتحاد السوفياتي.
حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لذلك لم يكن يستحقّ هذه المعاملة السيئة التي عومل بها بعد خروجه من السلطة في أوائل عام 1992، بعد أيّام من توقيعه وثيقة نهاية الاتحاد السوفياتي مع رئيسي جمهوريتين سوفياتيتين، هما بيلاروسيا وأوكرانيا أواخر عام 1991…
تكمن أهمّية غورباتشوف، إضافة إلى أنّه إنسان قبل أيّ شيء آخر، في أنّه اكتشف باكراً أن لا مجال لمعالجة المشكلات الناجمة عن نظام متعفّن لا علاقة له من قريب أو بعيد بالمواطن العادي ورفاهه وحريته.
كان الزعيم السوفياتي من بين المدللين لدى الزعيم السوفياتي يوري أندروبوف الذي خلف في عام 1982 ليونيد بريجنيف في موقع مدير دائرة الاستخبارات “كي. جي. بي”. من هذا المنطلق لا يمكن الشكّ في ولاء غورباتشوف للاتحاد السوفياتي ودوره… إلى أن وصل شخصياً إلى موقع الأمين العام للحزب الشيوعي في عام 1985. خلف غورباتشوف، الشاب نسبياً، العجوز قسطنطين تشيرنينكو الذي كان قد خلف بدوره أندروبوف.
كان المشهد أمام غورباتشوف واضحاً. كان أمام دولة منهارة بكلّ معنى الكلمة، دولة عاجزة عن الاستمرار في حرب أفغانستان وغير قادرة على العيش من دون دخل النفط والغاز اللذين انهارت أسعارهما في تلك المرحلة. حاول غورباتشوف التعاطي مع الوضع القائم. اكتشف أنّ ذلك من باب المستحيلات. لجأ إلى “بيريسترويكا”، التي تعني إصلاح النظام والاقتصاد وكلّ القطاعات الأخرى، وإلى “غلاسنوست” التي تعني الشفافية. لم ينفع ذلك في شيء. لم يمتلك في نهاية المطاف غير الاستسلام أمام إرادة الشعوب التي كانت تحت نير الاستعمار السوفياتي. الأكيد أنّ قرار الاستسلام جاء بعد رؤيته انهيار جدار برلين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989.
تحررت شعوب دول عدّة بفضل غورباتشوف الذي لم تكن لديه عقدة الغرب وأميركا بالذات. عادت دول أوروبا الشرقيّة، مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا، دولاً محترمة ذات أنظمة ديموقراطيّة. كذلك، تنشقت دول البلطيق الثلاث الحرّية بعد حرمانها منها طويلاً.
الأهمّ من ذلك كلّه، توحدت ألمانيا مع سقوط نظام بوليسي في ألمانيا الشرقيّة. كان غورباتشوف وراء هذا التطور على الصعيد الأوروبي. لكن ما لا يمكن تجاهله أنّ الزعيم السوفياتي، الذي كان يعرف معنى الابتسامة وأهمّيتها، لعب الدور المسؤول المفروض أن يلعبه عندما اجتاح الجيش العراقي دولة مسالمة مثل الكويت في آب (أغسطس) 1990. لم يعترض على تحرير الكويت. خيّب آمالاً بناها حاكم متخلّف اسمه صدّام حسين على المنافسة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. لم يأخذ صدّام علماً بنهاية الحرب الباردة والتحولات التي طرأت على موازين القوى الدوليّة بمجرد انهيار جدار العار في برلين. كان جداراً يفصل بين الحرّية واللاحريّة لا أكثر. كان يفصل بين دولة ديموقراطيّة مزدهرة اسمها ألمانيا الغربيّة ودولة بوليسية متخلفة اسمها ألمانيا الشرقيّة… حيث على الابن التجسس على والده.
ماذا لو لم يكن غورباتشوف يحكم روسيا عندما احتلّ صدّام حسين الكويت؟ يطرح هذا السؤال نفسه في وقت لم يفوّت فلاديمير بوتين فرصة ليؤكّد أنّه يفتقد الحسّ الإنساني. عندما نشاهد انضمام روسيا إلى إيران في الحرب على الشعب السوري، تخطر الكويت في البال. ماذا لو كان في الكرملين في عام 1990 شخص آخر غير ميخائيل غورباتشوف، شخص من طينة فلاديمير بوتين يؤمن بعظمة روسيا وبأن على الاتحاد السوفياتي إثبات أنّه قادر على التصدي لأميركا في كلّ مكان من العالم، بغضّ النظر عن طبيعة القضيّة المطروحة وبعدها الإنساني وعدالتها؟
الأكيد أن شخصاً مثل ميخائيل غورباتشوف، رفض أن يكون مجرّد دمية تحرّكها غريزة العظمة الروسيّة وأمجاد الاتحاد السوفياتي. ما كان لغورباتشوف أن يشارك في الحرب على الشعب السوري مباشرةً، واضعاً نفسه في خدمة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. كذلك ما كان ليخوض حرباً مع أوكرانيا لمجرد أنّها تنوي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).
لدى العودة إلى الحوادث التي شهدها العالم أيّام غورباتشوف، بما في ذلك تحرّر شعوب أوروبا الشرقيّة والبلطيق وجمهوريات إسلاميّة في آسيا، ولدى استعراض ما حصل بعد رحيل غورباتشوف، لا يمكن إلّا الاعتراف بأن الزعيم السوفياتي الراحل كان رجلاً عظيماً واستثنائياً. كان من أعظم رجال القرن العشرين. كان إنساناً قبل أي شيء آخر على خلاف ما هو عليه فلاديمير بوتين الذي خاض حرب أوكرانيا لينتهي في حضن إيران!