عن موت الشّعر وقيامة الشّعراء، أو العكس
بقلم: د. ماجدة داغر
النشرة الدولية –
مجلة “الحصاد” اللندنية –
يرى سانت جون بيرس (1887-1975) أنّ “الشعر هو علم الكائن”، بينما يصفه سلمان رشدي (1947) بأنه “صياغة العالم والحيلولة دون ركونه إلى النوم”. يغلب الشّعر، في الحالتين، كل من يجرؤ على تشريحه، توصيفه، تعريفه، تفسيره وتفكيكه. وفي الحالتين، يصيغ العالم، يوقظه ثم يربطه بحبلٍ سرّي ليبقى متدليًّا في أعالي السؤال تمهيدًا للولادة.
يَلِدُنا الشّعر ويستولد فينا كبائر الوجود، نافخًا صغائره إلى ما خلف الرأس المثقل، وإلى ما قبل السؤال المؤرق. نغبط أنفسنا، نستظلّ غيمته السّاحرة، نتوارى خلف أساطيره ونتقمّص أبطالها، مرددين مع “غاليليو”: “هناك نوعان من الذهنية الشعرية: إحداهما قادرة على اختراع الأساطير والأخرى مستعدة لتصديقها”.
لذيذ هذا الكائن الذي يقول عنه الكوبيّ خوسيه مارتي (1853-1895) “ذرة من الشعر الحقيقي كافية لتعطير قرن”. لذيذ بعطره وبجميع أشكاله وأنماطه وحتى بأهواله. لا يتوقف عن إدهاشنا وإخضاعنا لمزاجه الملوّن، ولا يتوانى أن يجعلنا دمى تحتفظ بمفتاح في خلفيتها في انتظار الفتح المبين.
وفي الانتظار، تتمدّد العروق في الجسد الشّعري وتمتلئ بكل صنوف الحياة: الآفلة والآتية، الرؤى والذاكرات، الأماكن المنسية، الأزمنة الملتبسة، سِيَرُ الماء والنّار، مرثيّات العشق، الرغبة الملعونة بالبكاء تحت المطر، الغربة المُلحّة، الليالي المتخمة بالوحدة، الهشاشة الملازمة للروح، المتعة بمواصلة الألم، التعالي على السّقم المزمن، السّفر بطائرة الورق، الرّقص مع الدراويش والذئاب، ادّعاء الرومانسية عند الغروب، والتظاهر المرهِق بالحياة وعدم الكفّ عن ارتكابها.
وفي الانتظار، ثمّة من يموت، وثمّة من يرصد القيامة. متلازمة شعريّة مُسرفة في السّوريالية. القيامة قبل الموت هنا. القيامة مرهونة بكلمة – مفتاح، بجملة صاعقة، ببيتٍ شعريّ حميم نافذته تفتح على وادٍ سحيق. القيامة قبل الموت هنا، قبل “ركون العالم إلى النوم”. القيامة شعريًّا هي الطريق الأطول إلى البقاء رمزيًّا حيث نحن، حيث لا تعني الأرض سوى مكان آمن للقدمين.
ما تبقّى، انتصار لمكابرة العيش على رقعةٍ معادية. على بقعة رماديّة تتجاذبها كائناتٌ مسحوقة. ما تبقّى، شيءٌ مما سقط من قصيدة رديئة وبكاء شعراء.
ما تبقّى، إحساسٌ مريع بالذّنب وبقايا حنين وألزهايمر…