الخذلانُ الهُلامي… في حوار معها – الجزء الحادي عشر

كتب الدكتور سمير محمد ايوب

النشرة الدولية –

سألتُها بنغمةٍ مُشبعةٍ بالقلق عليها: ما بِكِ؟!  ما كانَ وجهك بمثل هذه السمرة الداكنة. هل أحرق لهيبُ الشمسِ واجِهاتك، أم هي فِخاخُ الدنيا قد أرهقتك بمعاركها، وخانَتْكِ بعضُ دروبِها القسرية، وفرَّقَتك عن بعضِ الوجوهِ فيها؟!

إنحشرَ الكلامُ في حَلْقِها وكأنّها تَنْهَره. نَظَرتُ مباشرةً في عينيها مُشَجِّعاً،  فَهَرَعَتْ الكلماتُ عاريةً من بينِ شفتيها وهي تقول:

كان بِفِطنَةٍ صبورةٍ يقرأ صمتَ حرائِقي، تماماً كما كان يُتقِنُ مقاربةَ تلاوينِ قلبي وتَفانينه. وفي غفلةٍ مِن عقلي، باتَ مع كلِّ ملمحٍ لأيِّ خطأ مَهْما صَغُرَ يتناسى كلَّ شئ، وبلا منطقٍ يُحوِّلُ كل حبةٍ قُبَّة. كنت في أعتى لحظات الوجد أنتظرُ متعةَ الإنتقالِ معه، من الصداقةِ والإهتمامِ إلى الحب. باتَ صِفْراً جَمُدَ وهَمَدَ وماتَ سريريا، ما كان يَضجُّ حياةً بيننا.  حتى هو لم يَعُدْ كثيراً أمام ناظريَّ، ولم تَعُدْ روحي تُسافرُ إليه. سُدَّتْ فضاءاتُ سماواتِنا، فَقدَ شهيتَه في القول، وماتت شهيتي للضحك. بِتُّ أكسرُ دَوِيَّ صمتيَ الليلي  وإستفزازاتِ وجَعي بتأويلِ بقاياهُ، وتَحريفِ صوره لأنسى.

ما زالَ عندي أروع من الغضب والحزن والقطيعة، وما زال يستعصي على النسيان. ما زلتُ أشتاقُ لِلْبحةِ الساخرةِ في صوته، ولبريقِ عينيهِ المشاغِبتين، وللشيبِ في مفرقِ شعره وبوابات رأسه.

وأنا أعِدك ألا أختنق بركامِ غضبي العار ، قُل لي جَهراً يا شيخي، ما إسمُ ما بِتُّ بهِ أُصْبِحُ و بهِ أُمسي، إنْ لم يكن الخذلانُ بِشحمهِ ولَحمهِ، فماذا يكون إذاَ ؟!

قلتُ بوجعٍ: في قلوبِ البعضِ مِنا بُقعٌ غائرةٌ بعيدا، لا يَصلها نورُ العفوِ ولا النِّسيان،  لها قدرةٌ غريبةٌ على الإنتقامِ بالصمتِ اللاسعِ أو الواخزِ، دونَ عتابٍ ودونَ عراك. وحده صمتُ الخذلانِ غيرِ المُورِق، من يُخبِرك بأن المكان بات خاليا منك،  واليد لم تَعُدْ تمتدُ لك، ولم يعد يُضفي دَمعُك على المشهد إلا همّاً وغَمّاً ونَكَداً.

قالت بصوت متهدّجٍ : كيف أداوِرُ جُروحاً لا أراها، وإعتذارات لا أتوقعها ؟

قلت وانا احدق في عينيها المشوبة بضباب دامع : وكما أن الخذلان يكون بانتظار شئٍ لا يأتي، أو بأخذٍ لن يُرَدُّ، فإن التوقعات لعنةُ الحب تقتاتُ على الإقبال، تقف بك دائمًا في خانةِ الإنتظار والمقارنات مع الآخرين.

فسألت وهو تتنهد بقوة: بِمَ تنصحني إذن يا شيخي؟

قلت وأنا احاول الابتسام: تخلَّصي من توقعاتك الكبرى مُبَكِّراً، ودَعي لهُ حرية التعبير، ولا ترتبطي بشراكةٍ مع مَنْ كانت روحه قد إعتادت الموت، إلا إذا كنتِ قادرةً على التعامل  بِتفهُّمٍ مُفْرِطٍ في تسامُحه وفي كرمه، وامتَلَكْتِ الكثيرَ مِنْ أدواتِ التّضميد والبَلْسَمة.

الخذلانُ يا سيدتي ليس  خِيانةً أو إهانةً  يُمكِنك إختصامُ الشريكِ بِها، بل حِيدَةٌ سلبيةٌ لا تُفْرِحُ ولا تُقاوَمْ، والخاذِلُ صفرٌ هُلامِيٌّ لَزِجٍ، لا أخطاء له لتلومَه ، ولا مُبادراتٌ له تُجَدِّدْ،  تعيش معه تائهًا وحيدًا، لا شيء تُعاتِبه عليه أو تُحَبِّهُ بِهْ.

زر الذهاب إلى الأعلى