وصلة ردح خلف الجنازة
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
حتى أكثر المتابعين ممن يرصدون ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا من شيزوفرينيا عاطفية وسياسية معروفة (تُبطن خلاف ما تُظهر)، لم يكونوا يتصورون أن الأمور بهذا القدر من سوء الارتياب المتراكم غيظاً، بحيث لا يحتاج لأكثر مِنْ ”نكشة“ لكي ينفجر، وفي توقيت مُحَرج.
وهل أكثر إحراجاً للمتلاسنيين في الإعلام الأمريكي والبريطاني من أن يأتي ذلك في مقام هيبة الموت؟ وفاة الملكة إليزابيث الثانية وما رافق الجنازة المهيبة من ردح واستذكارات وتلميحات أين منها هجاء إعلام دول العالم الثالث وهي التي يعتبرونها نقطة القياس المرجعي لكل ما هو متخلف غير ديمقراطي أو متسق.
كانت لقطة طويلة لم تحظ بما تستحقه من تركيز وتقليب ومتعة الاستبطان؛ فهي تكشف لسياسيي البؤر المأزومة، في أوكرانيا والشرق الأوسط وغيرهما، أن الأمور يمكن أن تفلت بسهولة، وأن الشقوق بين الحلفاء الكبار تتجاوز السياسي والاقتصادي إلى الأخلاقي والعاطفي.
القصة انفجرت بعد ساعات من إعلان وفاة الملكة إليزابيث، مساء يوم الثامن من سبتمبر، فتحت عنوان ”نحزن على الملكة وليس على إمبراطوريتها“ نشرت صحيفة ”نيويورك تايمز“ الأمريكية مقالة رأي وصفت فيها بريطانيا بأنها ”مملكة شبه دكتاتورية، يتحلّق أهلها حول حرائق النفايات في شوارع لندن، يتلهّون بمصمصة أرجل الضأن، ثم يفعلونها في مياه المستنقعات القريبة“.
وزاد المقال على ذلك بنصيحة ألا نجعل من عصر الملكة مشهداً رومانسياً كونها ساعدت في إخفاء تاريخ استعماري دموي ما زال ينتظر توصيفاً وتوقيتاً يتوجب الإقرار به.
زاد من حنق الإنجليز أن الصحيفة الأمريكية الكبرى وسعّت من بيكار الشماتة أو التشفي بأن استدرّت العطف على الشعب البريطاني الذي قالت إنه سيدفع كلفة الجنازة ومسيرتها الطويلة المعقدة، وإن هذه الغرامة تأتي من فوق أوضاع معيشية تئنّ تحت ارتفاع أسعار الطاقة وانفلات التضخم.
ولم تكن ”نيويورك تايمز“ الصحيفة الأمريكية الوحيدة التي أفاضت في التوصيف السلبي الجارح لما بقي من الإمبراطورية البريطانية، بل إن مجلة ”ذي قت“ النسائية الواسعة الانتشار، نوّعت في الانتقاد وبأكثر مما هو مألوف.
ولذلك جاء رد الفعل البريطاني سريعاً متعدد المنصّات ويرى في الحملة الأمريكية أكثر من مجرد مقالة رأي تحتمل الاجتهاد الشخصي.
صحيفة ”ذي تلغراف“ المحافظة سيّست ومأسست ما نشرته ”نيويورك تايمز“ بأنه ”ثأر يتولاه اليسار الأمريكي من بريطانيا، ورهابٌ (أنغلو فوبيا) تعيشه المؤسسة الليبرالية الأمريكية تجاه الإنجليز.
صحيفة ”سبكتيتور“ الأسترالية المحسوبة على رئاسة الكومنولث وصفت ما كتبته ”نيويورك تايمز“ بأنه مرض ”داء متلازمة الاختلال الملكي“.
فيما أوشكت ”نيويورك بوست“ على إدراج ما تكتبه ”نيويورك تايمز“ تحت باب الإرهاب ووصفته بأنه ”إعلان الجهاد ضد المملكة المتحدة والملكة إليزابيث“؛ فقد آلمهم كثيراً أن التايمز الأمريكية لم تصبر على الملكة حتى يتم الانتهاء من مواراتها التراب.
على أي حال، ليس سراً سياسياً أن الإمبراطورية الأمريكية قامت، بعد الحرب العالمية الثانية، على أنقاض الإمبراطورية البريطانية؛ فالشرق الأوسط ربما كان الإقليم الأممي الأكثر دراية بتفاصيل المطاردة الدامية التي تعقبت فيها واشنطن شريكتها الظاهرية، لندن، وأخرجتها مما كان يُسمى شرق السويس.
صحيح أن عملية الاستلام والتسليم الإمبراطوري بين لندن وواشنطن في الشرق الأوسط، كانت نهاية ستينيات القرن الماضي، إلا أن تلك الكشوف لم تكن تقفيل حسابات، ولم تأت مصحوبة بشهادات براءة ذمة.
ولذلك، يستذكر بعض الإعلام الأمريكي الآن، أن عهد الملكة الراحلة إليزابيث (سبعين سنة على العرش) هو الفترة ذاتها التي استغرقها الشرق الأوسط في الخروج من أسر الإمبريالية البريطانية – الأوروبية، إلى إسار الإمبريالية الأمريكية الجديدة.
طرافة مشهد الردح الإعلامي الذي تبادلته ”نيويورك تايمز“ الأمريكية و“ديلي ميل“ البريطانية، الأسبوع الماضي، مردّها ليس فقط إلى التوقيت مع مجلس العزاء، وإنما في كونها تكشف عن عميق الغل والترصد المغطى بتبعية المصالح.
هو غل وكراهية لها في الوجدان الشعبي، بالبلدين، رصيد متوارث أخذ تجلياته الصارخة في الإعلام الحديث المنفلت، السوشيال ميديا، وإلا كيف يمكن لكل هذه التشنيعات ضد بريطانيا ومؤسسة العرش فيها، أن تشهدها منصات السوشيال ميديا الأمريكية على شكل نظريات مؤامرة أطلقتها الجنازة المهيبة، لولا أن الذاكرة الاجتماعية في البلدين تحتقن وتفيض بالشك المخلوط بالاستهانة؟
هذه نماذج منها:
نماذج من فجوة الثقة العميقة في الموروث الشعبي الأمريكي تجاه بريطانيا ومؤسسة التاج، وكيف جاء بيان وفاة الملكة إليزابيث ليطلقها نظريات مؤامرة لقيت استجابات مليونية حتى بعد أن جرى تمحيصها كشائعات ليس لها أساس سوى أنها تخاطب الشكوك العميقة المتبادلة بين الدولتين والشعبين.
بعد أقل من ساعة على تغريدة العائلة المالكة في بريطانيا، مساء 8 سبتمبر، عن وفاة الملكة، نشر مؤثرون في مجاميع QAnon (الموالين لدونالد ترامب) أن بيان موت الملكة غير دقيق، وقالوا إن الملكة ماتت من قبل، وإنها كانت تظهر في المناسبات طوال هذه الفترة بتقنية الهولوغرام، الصورة الثلاثية الأبعاد.
معلومة أخرى مفبركة جرى تعميمها في اليوم التالي بالولايات المتحدة تقول إن الملكة قُتلت بأحد أسلحة الطاقة، وإن ذلك تم في نطاق خطة غامضة تعلم بها مجموعة الـ300 الأممية السرية التي كانت ترأسها الملكة.
يوم 9 سبتمبر امتلأ تطبيق إنستغرام في الولايات المتحدة برواية مفبركة تنقل عن لسان الملكة أنها قبل وفاتها قالت إن لديها معلومات ستؤدي إلى اعتقال هيلاري كلينتون. وهو ادعاء يعود لتسعينيات القرن الماضي ويعكس نظرية مؤامرة مفادها أن هيلاري وزوجها بيل كلينتون يقتلان خصومهما السياسيين.
وفي نفس الوقت جرى بث صورة لامرأتين إحداهما الملكة ترميان للأطفال في الشارع أكلاً أو قطعا نقدية، في تشكيلة مهينة إنسانياً.. وفي المساء جرى بث صورة مركّبة لرجل عار يسقط من شرفة قصر بكنغهام، مع نصوص تقول إنه كان يحاول الهرب من“ وكر الشر“.
آخر تلك السلسلة من القصص المنتحلة كان بوستاً يقول إن وفاة الملكة جاءت بالضبط بعد 1776 يوماً من ”الصوت الوطني“، وفي ذلك تذكير بعام 1776 باعتباره عام استقلال الولايات المتحدة وهزيمة الاستعمار البريطاني الذي عادت ”نيويورك تايمز“ للتذكير اليوم بأنه كان خلطة لم تُنسَ من الاحتلال والعبودية.
لا أذكر حالة سابقة مماثلة لهذا الذي تبادلته الرموز الصحفية ومنابر السوشيال ميديا الأمريكية والبريطانية من هجائيات تنضح بالشك والاستهانة وتُهم التآمر، فقد جاء توقيتها في مقام الموت الملكي البريطاني وبما يهرش الذاكرة بإيحاءات لا يستطيع العقل السياسي الشرق أوسطي إلا أن يستمتع بقراءة إسفافها.