في عيدها… قديسة تُمطر ورودًا على الأرض

https://static.addiyar.com/storage/attachments/2042/1_594638_large.jpg

النشرة الدولية –

الديار – جويل عرموني –

أربعة وعشرون عامًا من حياة قديسة على الأرض قليلة أمام أعمالها العظيمة ومواقفها المَرِحة التي رسمت “طريق البساطة الروحيّة” مُحلّقةً إلى قمم الرجاء والايمان. من دير الكرمل في ليزيو- فرنسا إلى أوّل دير في العالم شُيّدَ على إسمها في سهيلة – لبنان، حاضنًا رُفاتها، مُستقطبًا المؤمنين، ملتمسين شفاعة أهلها القديسين لويس وزيلي مارتان وشفاعتها يوم عيدها في 1 تشرين الأوّل 1873 وفي الحالات اليائسة والمستعصية… فحين يكتشف الإنسان ضعفَه، تقول القديسة تريزيا الطفل يسوع: ” يَتحمَّل نقائص الغير، ولا تصدمه مَواطن الضعف فيه”. فلا يكفي أن نقول أنّنا نحبّ الآخرين، “بل علينا أن نقيم الدليل على هذا الحبّ”.

 

طوبى لمعلّمة الكنيسة وشفيعة الشبيبة

 

ولدت تريزيا عام ١٨٧٣ وترعرعت في عائلة صالحة مؤمنة، مختارة من الله لخدمته. وفي الحقيقة فإنّ إحدى ميّزات شخصيّات تريزيا هي أنّها راوية رائعة. تعلّمت من والدها لويس مارتان، الذّي كان حيويًّا مرحًا، تقليد الناس. فكانت مثلاً، تجيد تقليد البستاني في الكرمل. كما اكتسبت من والدتها زيلي طيبة القلب، المشاركة في القداس، إضافة إلى التقشّف والتجرّد وقهر الذات.

 

حاول لويس مارتين الذي ولد في بوردو عام ١٨٢٣، أنّ يترّهب ولكنّه لم يُقبل نظرًا لجهله اللّغة اللاّتينيّة. أمّا عن زيلي غيران التي ولدت في آلنسون، فقد حاولت الانضواء في رهبانيّة القديس منصور دي بول ولكنّ الأم الرئيسة، لم تقبلها. بعدها، اقترن لويس مع زيلي بالرباط المقدس، وتبارك زواجهما في كنيسة السّيدة في آلنسون. ولم يعش للعائلة سوى خمس بنات، أمّا الآخرون فقد رحلوا الى الأبدية في سنين مبكرة. وعكف الوالدان على تربية بناتهما تربية مسيحية أصيلة.

 

تمكّنت الراهبة الكرمليّة الشابة تريزيا الطفل يسوع من البلوغ الى ذروة القداسة، كونها اعتمدت على قوّة الله التّي أستقتها من ايمانها وثقتها الكليّة بمحبّته الأبويّة اللاّمتناهية. عرفت أنّ تبتسم دائمًا حتّى في وسط الصعوبات والظلمات الدامسة التّي اجتازتها.

 

عرفت تريزيا التجارب، ضعف الايمان، وتجربة الانتحار أمام آلامها، بما أنّها طلبت ألاّ تقدّم لها الأدوية. في تلك اللّحظات من آلامها لم يكن عندها أيّة تعزية. ولكنّها كانت تقول ليسوع: ” أنا عروسك. أنتَ صامت ساكت، ولكننّي أحبك أكثر. وعندما أصبح قربك، سوف تفعل كلّ شيء أطلبه منك”.

 

شاركت الناس أفراحهم وآلامهم، عجزهم وضعفهم، اجتاحت قلوبهم بعد أن أغوتها، فقرّبت المسافات بين الناس وأسقطت الحواجز بينهم وبين السماء، وأحسّت في أعماقها أقسى تجارب الخيبة والجحود، لكنّ ايمانها الصّلب وبركان حبّها المستعر لله جعلاها تتوجّه دائما نحو حبيبها الأزليّ، مالىء حياتها، يسوع.

 

بدأ السلّ يفتك برئتيّ ابنة الأربعة وعشرين ربيعًا، فنُقلت الى غرفة المرضى في ٨ تمّوز ١٨٩٧. ضمّت الصليب الى صدرها، أغمضت عينيها، وهوى رأسها على الوسادة في ٣٠ أيلول ١٨٩٧. أعلن البابا بيّوس الحادي عشر تريزيا قدّيسة في ١٧ أيّار ١٩٢٥، ومن ثمّ البابا يوحنا بولس الثاني ” معلمة الكنيسة جمعاء” في ١٩ تشرين الأول ١٩٩٧.

 

رفيقة خفيّة لكلّ كاهن وإكليريكي ومرسل…

 

وفي حديث مع رئيس دير القديسة تريزيا الطفل يسوع- سهيله- كسروان السابق الأب جوزيف زغيب الذّي تعرّف على هذه القديسة عام١٩٨٦ وعُيّن رئيسًا للدير عام ٢٠١١ من قِبل السلّطة المنتخبة، صرَّح لـ “الديار” عن اختباره مع القديسة تريزيا المميّز، معتبرًا أنّها “الرفيقة الخفيّة لكُلّ كاهن واكليريكي ومُرسل، لا تدعنا نشعر بوجودها، انّما هي موجودة مع كلّ وردة نراها ونحسّها، ونعمها موجودة كلّ يوم، عندما نصلّي في الكنيسة”.

 

أسّس الرئيس العام للرهبانيّة المارونيّة المريميّة الحلبيّة الأباتي جبرايل الشمالي هذا الدير عام ١٩٢٧ بعد عودته من روما، حيث شارك في احتفالات تقديس تلك الراهبة الكرمليّة العظيمة عام ١٩٢٥. تألّف الدير في البدء من غرفتين، ثمّ أضيفت الكنيسة الى المزار. عندما ازداد عدد الرهبان، اتُّخِذ القرار بانشاء دير أكبر ليضُمّ الاخوة من دير اللّويزة ونقلهم الى سهيله. ثمّ انتقل الاخوة في السبعينات الى هذا الدير الذّي يتألّف من ٣٠ غرفة على الطراز الحديث. كما أهدى البابا بيّوس الحادي عشر الرئيس العامّ، ذخيرتين من القديسة تريزيا، إحداهما من عظمها والثانية من شعرها، ودعاه ليحمل الأولى كذكر مقدّس منه، وأن يضع الثانية في كنيسة الدير الجديدة عربون البركة والرضى من قداسته. لقد زيد على هذا الدير الجناح الغربيّ مقرًّا للاكليريكيّة الكبرى للرهبانيّة المارونيّة المريميّة عام ١٩٧٢. وقد بوشر استقبال المبتدئين والمبتدئات من مختلف الرهبانيّات والطوائف للرياضات والصلاة والتوجيه عام ١٩٨٦.

 

وأكمَلَ الأب زغيب حديثه عن ذخائر القديسة التي زارت الدير ولبنان بمناسبة اليوبيل الماسي لتأسيس الدير عام ٢٠٠٢ لمدّة شهرين ونصف، وأحيطت خلالها بمظاهر التكريم والابتهاج. وفي هذه المناسبة نشأت علاقة توأمة روحية بين دير الكرمل في ليزيو ودير سهيلة، وتمّ توسيع المزار القديم وايداعه ذخائر من القديسة موضوعة في صندوق خشبي مشابه للأصلي الموجود في دير ليزيو، والمعدّ لزيارة بلدان العالم.

 

وعن برنامج الاحتفالات في عيد القديسة تريزيا الطفل يسوع هذا العام، تميّز بتأمّلات وتبريك للورود، إضافة الى التّساعية، الزياح، القداديس، وصلوات المساء.

 

ختامًا، أكّد أنّه لم يحصل حوادث شفاء تلامس العجيبة بعد، ولكن يتمّ صلوات شفاء للروح من خلال الاعترافات ومشاركة المؤمنين في القداس وخصوصًا الاثنين حيثُ يقام قداس السلام. وأضاف: “لا أنفي احتمال حدوث حوادث شفاء للجسد، فالقديسة أعمالها كبيرة وشاملة لكلّ من يؤمن ويصلّي”.

 

“التواضع هو الطريق الأقرب الى القداسة”

 

من بين الأخوة الدارسين في الرهبانيّة المارونيّة المريميّة، النادرين العفّة والطاعة والفقر في هذا الدير المبارك، الأخ س.ن الذي يعتبر أنّ التواضع هو الدخول إلى قلب الربّ، وهذا يتطلّب من المرء أن يتحلّى بأخلاق الرب يسوع. وتقول القديسة تريزيا الطفل يسوع :”التواضع هو الطريق الأقرب إلى القداسة”. فالمهمّ إذًا بالنسبة له ليس أن يكون الانسان صغيرًا، وإنّما أن يحدّق في وجه الله، في عينيه، بإندهاش وحبّ. وتصبح الطاعة إخلاءً للذات، حتى الموت عن الذّات، وتصبح العفّة توسيعًا لطاقات الحب، فتشمل كلّ الناس، ولاتحتفظ بشيء لأنانيّتها ولأناها، فلا ندّخر طاقة الاّ ونُقدمها في سبيل الآخرين، باسم الله سيد القلب والحياة”.

 

أمّا عن مشوار الأخ ر.ش مع “زهرة يسوع البيضاء”، قال: “بدأت قصّتي مع القديسة تريزيا عندما أتيت إلى هذا الدير كأخ بعد إبراز نذوري الرهبانيّة. أتعرّف إليها يوميًّا وأرى من خلال صورتها بسمة الورد ومرآة حبّ السماء. أختبر شخصيًّا يومًا بعد يوم، رهبانيّتنا التي تزداد بها تعلّقًا، فهي تمطر علينا النعم، ونحن نؤدي لها الإكرام. لقد تميّزت غَيرةُ القديسة تريزيا الايجابيّة التي أدّت إلى دخولها الدير من بعد أخواتها وسلوك درب القداسة على خلاص النفوس، وخصوصًا مع المجرم الايطالي التي خلّصته من خلال صلواتها وتوجيهه إلى التوبة. وأكمل مشدّدًا: “نستطيع بدورنا أن نغار على بيت الربّ من خلال أعمالنا الجيّدة، الاهتمام به وجعله مسكنًا لله على الأرض. لقد استندت القدّيسة تريزيا الى الكتاب المقدّس بعهدَيه القديم والجديد. فتأمّلته بايمان وتعمّقت بفهمه وعاشت تعاليمه بأمانة وكتبت صفحات رائعة عن الوحدة بين محبّة الله ومحبّة القريب. وأكبر سند في مسيرتها الروحيّة كان دور عائلتها القدّيسة. اكتسبت ايمانها من والديها الصالحين، وكتبت في نهاية حياتها قانون الايمان بدمها”.

 

وأضاف: “حملت تريزيا رسالة حبّ الى أبناء الكنيسة التي كان همّها وقلبها الدائم. فلم تفكّر الاّ في الكنيسة ولم تتعب الاّ في الكنيسة، ولم تتألّم الاّ من أجل الكنيسة. أثارت سيرة حياتها “تاريخ نفس” اهتمامًا كبيرًا، لذا تُرجمت الى أكثر من ٥٠ لغة، وقد حوت حكمة خارقة ساعدت الكثيرين على معرفة المسيح ومحبته. هذه تريزيا التيّ عاشت في الدير كرسولة حبّ، فأُعلِنت شفيعة المرسلات والمرسلين، هي التّي قدّمت كلّ أتعابها وحياتها لأجلهم حتّى يُعلنوا الانجيل في كلّ العالم”.

 

“أهلاً بك في لبنان، فنحن بحاجة لورودك ونعمك”!

 

يعجّ المكان دائمًا بالزوار الذين يأتون للتبرك والصلاة من كلّ الأعمار وكلّ الأمكنة حاملين إيمانهم وتوقهم إلى الخشوع والصلاة. وفي دردشة مع الزائرة س.ح، قالت: “أشارك يوميًّا في الذبيحة الالهيّة في دير القديسة تريزيا – سهيلة، ومنتسبة الى جماعة الصلاة المريميّة التيّ أسّسها جوني عبّود، ايلي وسيلين داغر في ٥ تشرين الثاني ٢٠٠٠، أثناء رحلة حجّ الى مديوغوريه. وبعد موافقة سيادة راعي الأبرشية المطران غي بولس نجيم، تبنّت الرهبانيّة المارونيّة المريميّة هذه الجماعة على الصعيد الرّوحيّ. دفعتني روحانيّة القديسة تريزيا العميقة الى معرفة يسوع اله المستحيل، الالتزام أكثر والاقتراب من الدير وروحانيّة القديسة. لا أستطيع أنّ أكتشف ما يجمعني بوردة السماء، مع أنّني لم ألتق بها أبدًا… أصبَحت أقرب من نفسي الى نفسي، هي قديسة الشباب وكلّ الأعمار. أحسدُ نفسي عليها لانّنا لا نستطيع عدم محبّتها من كثرة نِعَمِها التيّ تفيضها علينا”.

 

أمّا السيد س.خ، تحدث عن علاقته بالقديسة وبالمكان متمنيًا من كلّ مؤمن أنّ ينسى همومه ومشاكله خلال دخوله الى الكنيسة… ويركّز على كلمة الله ليَعمّ السلام والحبّ في قلبه. “فتريزيا أنصتت الى تعليم حبيبها الالهيّ بعشق سيطر على كلّ ماهيّتها وكلّ ما لها، وأكّدت أنّ التكلّم مع الله بالحبّ خير من التكلّم عن الله بانتماء شكلي. فبدلاً من أن تخبر عنه بكلمات جميلة رنانة بمضمون ضعيف قرّرت أن تكون حياتها شهادة لصليبه وموته و قيامته”.

 

زوار الدير الذين يحملون تعبهم وهمومهم يتوجّهون إلى هذه القدّيسة الصغيرة بعمرها، والكبيرة بروحانيّتها وقداستها، وقد وعدت الله بأنّ ” تقضي سماءها في صنع الخير على الأرض” ويسألوها، بعد أنّ باركت الكثير من أديرتنا ورعايانا، أن تبارك بلدنا لبنان، ليبقى وطن الايمان بالله والمحبة والسلام. ويردّدون بصوت واحد: “يا قديستنا العظيمة، تريزيا الصغيرة، أهلاً بك في لبنان، فنحن بأمسّ الحاجة إلى ورودك ونعمك!”

زر الذهاب إلى الأعلى