تذكير بهوية المغتربين العرب
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

تَخيّل لو أن إحدى الدول العربية المريضة بمتلازمة العنف الداخلي والذوبان الاقتصادي والهجرة القسرية أو الطوعية (وهي أكثر عدداً من ربع دول الجامعة العربية)، خطر لها أن تستطلع رأي مواطنيها بسؤال الواحد منهم عن هويته الذاتية.. كيف يراها هو؟

المقصود بالهوية الذاتية، هو الأدوار المختلفة التي يؤديها الواحد منّا في حياته، بموجب انتماءاته الجندرية والسياسية والاجتماعية والدينية، وتتشكل منها الطريقة التي يرى فيها نفسه.

هي بالتأكيد غير تلك الهوية التي يمنحها أو يفرضها عليك الآخرون، ويُلزمونك بموجبها بأولويات وقيم وأهداف حياتية ليست هي التي ترتضيها، وقد تفضي بك إلى الهجرة.

عملياً، يستحيل التصوّر بأن أياً من تلك الدول العربية المبتلاة بالفشل والمُصدّرة للمهاجرين، يمكن أن تجازف بمثل هذه اللعبة الفاضحة، لعبة سؤال مواطنيها عن هوياتهم كما يرونها هم.. فمثل هذا السؤال يفك العقد الاجتماعي، إن كان موجودا.

كيف يمكن تخيّل إجراء استطلاع محلي في هذه الدول عن “الهوية الذاتية” للمواطنين، إذا كان آخر إحصاء سكاني في لبنان -على سبيل المثال- جرى عام 1932، بينما في العراق تتبارى الأحزاب والمليشيات منذ عشر سنوات برفض إجراء الإحصاء السكاني العادي الدوري، لأنهم جميعا يعرفون أن استطلاع الهوية الذاتية سيكشف بيانات وحقائق صادمة يتواطأ أصحاب القرار على إخفائها..

على أي حال، مبرر طرح التحدي عن موضوع استطلاع رأي الناس في دول الاحتراب الداخلي والفشل، ليحدد المواطن فيها هويته الذاتية كما يراها هو، جاء طرحاً من نوع الرفاهية الفائضة في مقارنة ما هو حاصل وما هو مطلوب.

المقارنة استدعاها استبيانٌ نشرته الأسبوع الماضي، (29 سبتمبر)، صحيفة “نيويورك تايمز”، مُخصص للمقيمين في الولايات المتحدة ممن تعود أصولهم إلى الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا.

الاستطلاع منشور باللغات الثلاث، العربية والفارسية والإنجليزية، ويقول: “إذا أردتَ أن تكتب شيئاً عن هويتك، كيف تصف عِرْقك أو إثنيتك؟”.

المقصود بالعِرْق توصيف السمات الجسدية المتوارثة، وبالذات اللون. أما الإثنية فهي الهوية الثقافية التي يكتسبها الشخص ويتعلمها.. ومن كلتيهما معا تتشكل الهويّة الذاتية للشخص، كما يريدها هو أو كما تريدها الدولة أو النظام.

منطق الاستطلاع الاختياري كما عرضته “نيويورك تايمز”، هو أن البيانات المتعلقة بالعرق والإثنية، ستمكّن من الحصول على معلومات بشأن التنوع المتزايد للأمة، مع احترام كرامة كل فرد، في نفس الوقت..

ذلك من شأنه أن يُنتج بيانات إحصائية لرصد الظروف والاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط لضمان العدالة في تمويل برامج الميزانية الحكومية، وإنما أيضاً لضمان منع التمييز ضد بعض الأعراق والإثنيات، كما حصل مع العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا بعد عمليات 11 سبتمبر الإرهابية.

أما مبرر استطلاع رأي المهاجرين والمغتربين من أصول شرق أوسطية وشمال أفريقية، فهو أن إدراجهم التاريخي مع العرق الأبيض (ذوي الأصول الأوروبية) ما عاد مقنعاً أو مقبولاً، لديهم أو للآخرين.

كان المهاجرون العرب الأوائل، ومعظمهم من مسيحيي بلاد الشام الذين هربوا من ضيم العثمانيين، أدرجوا أنفسهم في المجتمع الأمريكي ضمن فئة العرق الأبيض، في مقابل التوزعات الشائعة التي تشمل العرق الأسود (من أصول أفريقية) والأصفر (من أصول شرق آسيوية)، فضلاً عن الهنود الأمريكيين، أو ذوي الأصول اللاتينية من أمريكا الجنوبية.

تاريخ البياض مع الأشخاص المتحدرين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اتسم طوال العقود الماضية بالتعقيد والخيارات المحدودة.

فبعد موجة الهجرة الأولى لمسيحيي بلاد الشام في نهايات القرن التاسع عشر، جرى عام 1924 تقييد الهجرة باستخدام حصص المنشأ، وأُعيد فتحها للعرب بعد نكبة 1948، ثم جرى عام 1952 حصر التجنيس بالعرق الأبيض، وشمل ذوي الأصول العربية، ليُعاد فتح الباب بعد حرب 1967، فكان أن ظل العرب يُحسبون في الخريطة العرقية الأمريكية ضمن “البيض”.

في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ولأسباب بعضها سياسي وآخر انتخابي، طُرح موضوع منح الأمريكيين من أصول عربية ميزة أن يحصلوا في الكشوف الإحصائية الرسمية على خانة خاصة في التوزيعة العرقية المعتمدة في الإحصاء الفيدرالي الذي يتجدد كل عشر سنوات.

لكن إدارة الرئيس دونالد ترامب تلكأت وربما عرقلت ذلك، ليعيد الرئيس الحالي جو بايدن تبنّي الموضوع، وفي ذلك مصلحة انتخابية مع حوالي 357 مليون أمريكي من أصول عربية.

وحتى لو كان صحيحاً أن دواعي مغازلة بايدن للعرب مردّها اعتبارات ديمقراطية وإنسانية، فقد اعترف له عرب أمريكا بفضل المبادرة عندما أقرت إدارته اعتبار شهر أبريل (نيسان) من كل عام، شهراً وطنياً للتراث العربي الأمريكي.

استطلاع رأي العرب الأمريكان كما أفردت له “نيويورك تايمز” قبل أيام، وعرضت عليهم أن يحددوا فيه هويتهم الذاتية، كما يرونها هم، كان لفتة تذكير بأن صراع الهوية والاندماج والأمان، هو معضلة شرق أوسطية قبل أن تكون أمريكية.

فإذا كان عدد المغتربين العرب في الشتات يقارب الستين مليوناً، فإن بينهم الآن حوالي 45 مليونا يندرجون في الجيل الثاني للمهاجرين ممن أضحت علاقاتهم بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا رومانسية مخلوطة بالكثير من عدم الثقة، وهي معضلة يجري تطنيشها بسوء نية.

كان يمكن لتحويلات المغتربين العرب المالية المقدرة بحوالي 60 بليون دولار سنويا أن تكون خياراً لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في التصحيح الاقتصادي المستحق، وفي مواجهة الهزات المعيشية المتوقعة جراء تفاقم معدلات الفائدة والتضخم.

هذا الدفق الموصول من الإيرادات الخارجية التي تصل لدول المنطقة من أبنائها في الشتات، يزيد عن حجم التجارة العربية البينية، ويتجاوز مساعدات التنمية، وكان ولا يزال ممكناً أن يشكل بوليصة تامين جزئية لاقتصادات المنطقة، لولا أن الثقة المتبادلة بين هذه الدول وأبنائها في الاغتراب ليست بالمستوى المطلوب الذي يتمناه الطرفان.

لا يحب ذوو الصلة أن يعترفوا بالحقائق الصعبة التي جعلت المغتربين العرب لا يشبهون نظراءهم من الصينيين والفلبينيين في حجم اندماجهم بالتنمية المحلية والمشاركة في الدورة الاقتصادية الوطنية، حقائق أن مفهوم المواطنة منزوع عن المغتربين في غياب مشاركتهم السياسية، فضلاً أن الفساد في معظم البلدان العربية المصدرة للهجرة أوسع وأشرس من أن تتجاوزه العين أو يتجاهله مغتربون يعيشون في بيئات ديمقراطية يتمنون أن تكون أيضاً في بلدانهم ولا يستطيعون إخفاء هذه الأمنيات التي تجعلهم، في عيون دولهم، أقرب للمعارضة السياسية.

موضوع الهوية الذاتية للمغتربين العرب كما يرونها في أنفسهم، لم يسبق لأي جهة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تناولته بما يستحق من الجسارة والموضوعية الموجعة، ولا يبدو في الحال الراهن وفي الأفق ما يشير إلى أنه موضوع مدرج بين أولويات هذه الدول التي تواصل إجبار أبنائها على الرحيل.

زر الذهاب إلى الأعلى