ارتدادات “ثورة الحجاب” الإيرانيّة على “محور الممانعة”
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

من كان يعتقد بأنّ “ثورة الحجاب” في ايران مجرّد “عارض اجتماعي” سرعان ما ينتهي ويخرج منه “نظام الملالي” أقوى ممّا كان عليه، اكتشف أنّه متوهّم.

لقد دخلت هذه الثورة التي فجّرها قتل الشابة مهسا أميني، في السادس عشر من ايلول/ سبتمبر الأخير أسبوعها الرابع، بزخم قوي، بعدما انضمّت اليها طالبات المدارس، وسط تعاطف غير مسبوق من نساء العالم الحر.

ولم يجد النظام الايراني الذي أحكم المتشددون السيطرة عليه في الانتخابات النيابية والرئاسيّة “المعلبّة” والتي كانت قد شهدت أكبر مقاطعة شعبيّة، سوى المناداة بالمؤامرة الخارجية لتبرير جوابه الوحيد عن انفجار الغضب العارم من فئات أحبطها انسداد أفق المستقبل في وجهها: القمع، الاعتقال والقتل.

ولجأ النظام، في سياق ابتزاز الحكومات الغربية التي سارعت مجتمعاتها الى التضامن مع ثورة “المرأة، الحياة والحريّة” الى اعتقال بعض مواطنيها الموجودين في ايران  بتهمة التجسّس، في محاولة جديدة ليفرض عليها سياسة المقايضة.

ولكنّ اسلوب “حجز الرهائن” الذي تحترفه “الجمهوريّة الاسلامية” منذ نشوئها، لن يجدي نفعًا، في مواجهة “ثورة الحجاب”، لأنّ التعاطف الشعبي القوي معها في هذه الدول لا يمكن أن يخضع لارادة الحكومات، حتى لو كانت ترغب، في بعض الأحيان، كما هي عليه الحال في غالبيّة دول “الاتّحاد الاوروبي”، ومن دون أيّ حاجة الى أيّ مقايضة، بإعطاء النظام الايراني ما يحتاج إليه من دعم.

إنّ “ثورة الحجاب” التي تقودها النّساء الايرانيّات، ليست ثورة علمانية ضدّ الدين، ولا هي ثورة سياسية ضدّ الحاكم ولا ثورة اجتماعية ضدّ الفاسد، بل هي ثورة مركّبة تتداخل فيها عوامل كثيرة تراكمت في نفوس غالبيّة ايرانية أيقنت أنّ النظام الإيراني يقفل نوافذ المستقبل على الجيل الناشئ بعدما أطبق على أنفاس الآباء والأمهّات، ولا يقدّم لمجتمعه، كلّما اعترضته مشكلة، سوى نظريات المؤامرة بيد وأدوات القمع باليد الأخرى.

ومهما ذهبت اليه التحليلات السياسيّة “الباردة”، لا يمكن أن  تنتهي هذه الثورة الى هزيمة، كما انتهت اليه ثورات سابقة من طبيعة مختلفة، لأنه، كما أثبتت الأسابيع الثلاثة الأخيرة، لها جذور ثقافية عميقة تتقاطع، في أبرز مفاصلها، مع ثورة تحرّرية نسائية عالميّة غيّرت وتغيّر المجتمع حتى في أكثر الأنظمة ديموقراطيّة.

وأثبتت تجارب الإنسانيّة أنّ الثورات متى وقفت وراءها النساء يستحيل أن تنكسر، لأنّ المرأة التي هي الملهمة والوالدة والابنة والشقيقة والزوجة والحبيبة، إمّا تحجب، بحذرها الشجاعة أو تشحذ، بغضبها، الهمم.

قد يكون صحيحًا أنّ “ثورة الحجاب” لا تطرح بديلًا ملموسًا عن النظام الايراني الحالي، ولكنّها، بمجرّد إصرارها، على إدخال تغييرات ثقافيّة على طبيعة هذا النظام، تشكّل خطرًا عليه، لأنّه نظام احترف مداواة أمراضه بمزيد من التشدّد.

وهذا يعني أنّ النظام الايراني، بمجرّد اضطراره الى إدخال تعديلات جذريّة على بنيته الثقافيّة، بما يتلاءم مع تطلّعات أجياله الشابة، يصبح عاجزًا عن الاحتفاظ ببنيته البشرية والعقائدية التحتيّة، الأمر الذي يحتّم انتقاله من “مجتمع حرب” يزرع الرعب في الداخل ويوزّع الاضطراب في الخارج، الى “مجتمع حياة” يرعى الحريّة النسبية في مجتمعه ويحاول أن يتواءم مع العالم.

ولم يكن لجوء ابراهيم رئيسي، بعد ايصاله الى رئاسة الجمهوريّة، في عمليّة “مدروسة”، الى فرض مزيد من التشدّد المجتمعي، تحت راية إعادة الاعتبار الى الحجاب، سوى محاولة منه، بتوافق تام مع “المرشد الاعلى” علي خامنئي و”الحرس الثوري” ، لإمساك الايرانيين، بيد من حديد،من أجل خوض أهم معاركه مع الخارج.

واذا كانت هذه الخطة نجحت خارجيًا، الى حدّ كبير، انطلاقًا من “براغماتية” الحكومات الغربيّة وانتهازيتها، إلّا أنّها “كسرت” الداخل الذي أرهقته عقود من استعماله كوقود في صراع مفتوح من أجل تحقيق “أحلام مجنونة”.

إنّ “ثورة الحجاب” ليست سوى تعبير عن تعب الداخل الايراني  من مصالح تريد إبقاء الشعب الايراني الذي انفتح، بفعل التطوّر التكنولوجي، من جهة أولى وبفعل التواصل القائم بينه وبين دياسبورا ايرانيّة مميّزة، من جهة ثانية، وبفعل نشوء جيل جديد لا علاقة له مطلقًا بنشوء الثورة الاسلامية، من جهة ثالثة، في معادلات كانت صالحة في العصور الوسطى.

ولا يمكن فصل تكوّن الوعي الايراني الداخلي عن الوعي الشعبي ضدّ السلوك الايراني في الدول التي يحاول “الحرس الثوري” عبر أذرعه فرض معادلاته فيها، كما لا يمكن الاستخفاف، بأيّ شكل من الأشكال، بالتأثير الكبير الذي ستتركه “ثورة الحجاب” على الشعوب التي يخترقها “الحرس الثوري”، اذ إنّ ما تصدح به مناطق ايران ضد “النظام القاتل”، ورفعًا لشأن “المرأة، الحياة والحريّة” سرعان ما سوف يتردّد صداه في المناطق التي لا تزال “أذرع الجمهوريّة الاسلاميّة” تحكم إقفالها، بعد ترويج ممنهج وطويل للنظام الايراني “النموذجي”، و”الرعائي” و”المقدّس”.

إنّ “ثورة الحجاب”، بغض النظر عن النتائج التي أحدثتها وسوف تحدثها في الداخل الايراني، لن تكون تفصيلًا مهملًا في إعادة تكوين الوعي المجتمعي في الدول التي تسعى ايران إلى تصدير نموذجها اليها.

وعليه، فإنّ “ثورة الحجاب” وإن كانت ايرانيّة، إلّا أنّ صداها يتخطى الهويّة القوميّة، ليتردّد بقوة حيث يجري التحشيد للجمهورية الاسلامية باسم الهويّة الطائفيّة.

ولم يكن من باب “الثرثرة” أن تخرج قيادات “أذرع ايران” في لبنان والعراق واليمن وسوريا للاستخفاف ب”ثورة الحجاب” وتصويرها كما لو أنّها مجرّد فقاعة صابون، لأنّ هؤلاء يدركون أنّه، في حال غيّمت في ايران، فإنّها، عاجلًا أو آجلًا، سوف تمطر في دولهم.

زر الذهاب إلى الأعلى