لقاء الجزائر… هل من جديد؟
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

جاءت نتائج لقاءات الجزائر للمصالحة الفلسطينية قبل أيام مشابهة إلى حد كبير لنتائج المحطات المتعددة للمصالحة على مدى أكثر من عقد ونصف مضى. ولعل أهم ما ميز “إعلان الجزائر” هذه المرة عن غيره من إعلانات المصالحة السابقة أنه جاء من الجزائر بلد الثورة، ذلك البلد وشعبه الذي يكنّ له الفلسطينيون كل حب واحترام. الا أن واقع الحال والنتائج النهائية لهذه المبادرات لا يرتبط بالبلد أو بالوسيط الذي يستضيف أو يتبنى هذه اللقاءات، ولا حتى بمعطيات تفاهمات المصالحة، أو حتى بمدى قدرة الفلسطينيين على تنفيذها. فالفلسطينيون بلوروا على مدار السنوات الماضية مقاربة تصلح لأن تكون أساساً للتفاهم والتصالح. فقد باتت مشكلة المصالحة الفلسطينية لا تعد قراراً فلسطينياً خالصاً، فأصبحت تتعلق أيضاً بالفيتو الإسرائيلي الأميركي وتخضع لحسابات وتدخلات دولية وإقليمية.

ورغم أن الانقسام الفلسطيني قد أضر بالقضية الفلسطينية كما لم يضر بها حدث آخر، إلا أن المعضلة الآن تكمن في أن استمراره في الوقت الحالي، في ظل المعطيات السياسية والاعتبارات الميدانية الحالية في فلسطين، يشكل خطراً وجودياً على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية برمتها، فهل سينجح الفلسطينيون هذه المرة في التحدي المفروض عليهم وإنجاز المصالحة، لحماية انتفاضة وثورة شبابهم واستثمار تضحيتهم لصالح قضية هذا الشعب”؟

نجحت الجزائر مؤخراً، بعد قرابة عشرة شهور في تنظيم لقاءات متعددة بين الفرقاء الفلسطينيين، وفي إنجاز إعلان آخر جديد من إعلانات المصالحة. لم يختلف الإعلان الجديد عن سابقاته، فقد جاء بشكل عام مشابهاً للتجارب السابقة، كما صيغ في إطار عبارات تشكل مبادئ عامة، تم حسمها أيضاً في الماضي، ولم يتناول “إعلان الجزائر” أي تفاصيل إجرائية تنفيذية، لأنها موجودة كذلك بشكل مفصل في وثائق المصالحة السابقة، والتي تم التوافق حول الكثير منها عملياً. ولعل أهم ما طرحه الإعلان الجديد هذه المرة هو تولي فريق عمل جزائري عربي الإشراف على الاتفاق ومتابعة تنفيذه، أي توفر مبدأ الرعاية، والذي اقتصر على مصر في اتفاقات سابقة. ورغم أن الفرقاء أقروا بأن فكرة الرعاية العربية قد طُرحت أيضاً في حوارات سابقة، الا أنه لم يتم النص عليها في الوثائق. إن الخلاف حول البرنامج السياسي للحكومة، والذي أدى إلى حذف البند المتعلق بها من أساسه في “إعلان الجزائر”، على الرغم من أنه تم تجاوز هذا الخلاف في اتفاقيات سابقة، يعطي الانطباع بأن الفرقاء لم يكونوا متحمسين لتحقيق اختراق جديد في هذه الجولة على الرغم من حساسية توقيتها. ورغم ذلك، نجحت الجزائر في هذه المبادرة التصالحية من خلال استخدامها للزمان والمكان في تذكير الفلسطينيين بأهمية قضيتهم، وبإرثٍ ثقيل باتوا يحملونه فوق ظهورهم بفعل انقسامهم، فقد جاء توقيع “اعلان الجزائر” قبل أيام فقط من ذكرى إعلان الرئيس ياسر عرفات قيام دولة فلسطين عام ١٩٨٨، وكان ذلك الحدث في القاعة الكبرى لقصر المؤتمرات في العاصمة الجزائرية، التي شهدت مراسم توقيع “اعلان الجزائر” من قبل الفصائل الفلسطينية قبل أيام.

بعد خمس عشرة محطة صلح، على مدار أكثر من عقد ونصف، طور الفلسطينيون مقاربة عامة لحل الخلافات الجوهرية بين حركتي “فتح” و”حماس”، بدءاً من الإقرار بضرورة إصلاح منظمة التحرير ومروراً بالاتفاق حول ضرورة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وثالثة للمجلس الوطني لمنظمة التحرير، ووصولاً للاتفاق حول تشكيل حكومة توافق وطني مؤقتة، للتحايل على الخلاف حول البرنامج السياسي للحكومة، الذي يختلف حوله الفرقاء. وبالإضافة إلى نجاح الفلسطينيين في تجسير العديد من الملفات المعقدة في حوارات المصالحة، نجح الفلسطينيون في تشكيل حكومة وحدة وطنية استمرت لأربعة شهور عام ٢٠٠٧، وحكومة وفاق وطني في العام ٢٠١٤. ورغم ذلك يبقى  قرار المصالحة أمراً يتعلق بالإرادة الحقيقية لأطراف الانقسام، في ظل صراع برامجها السياسية. وسمح استمرار الانقسام وإطالة أمده بتدخل جهات خارجية أسهم في استمراره والتأثير على قرارات الأطراف الفلسطينية في هذا الخصوص.

منذ حدوث الانقسام لم تخف إسرائيل استحسانها لما آل اليه وضع الفلسطينيين، فاستخدمت كافة الأساليب من ترهيب وترغيب لثنيهم عن تحقيق المصالحة. بدأت إسرائيل بمعاقبة الفلسطينيين في أعقاب الانتخابات التشريعية، بعد فوز حركة حماس بالأغلبية فيها. فعاقبت حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية برئاسة حركة حماس، والتي تشكلت استناداً إلى اتفاق مكة بحجب أموال المقاصة عنها، وهي التي تشكل ما يعادل ثلث ميزانية السلطة، كما منعت تنقل أعضاء الحكومة وأعضاء المجلس التشريعي الجدد ما بين جانبي الوطن الفلسطيني المحتل واعتقلت عدداً منهم لتعطيل عمل الحكومة والمجلس.

وبعد الانقسام، لم تخفِ الحكومات الإسرائيلية المختلفة امتعاضها من أي محاولة للصلح بين حركتي “فتح” و”حماس” وتوحيد شقي الوطن، وهدد نتنياهو السلطة الفلسطينية صراحة بأن على الفلسطينيين أن يختاروا بين العملية السلمية والمفاوضات وبين المصالحة مع حركة حماس. ولم تتردد الولايات المتحدة في تبني مقاربة إسرائيل في ذلك الموقف، وطالما أكدت على ضرورة التزام الحكومة الفلسطينية بشروط الرباعية الدولية في تدخل سافر في الشأن الفلسطيني. أدى ذلك الوضع إلى تدخل جهات إقليمية في الشأن الفلسطيني سواء للحد من حدة الحصار بأشكال مختلفة أو لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الفلسطينيين، دون أن تنسق فيما بينها، الأمر الذي سمح بتعدد الأطراف المتدخلة في الشأن الفلسطيني، والمتنازعة في المصالح فيما بينها، فباتت المشكلة الفلسطينية أسيرة لمعادلات إقليمية متضاربة، تصاعد تأثيرها مع طول أمد الانقسام.

أضر الانقسام بالقضية الفلسطينية كما لم يضر بها حدث آخر. خمسة عشر عاماً من الانقسام أعادت القضية الفلسطينية إلى الوراء في الأجندات الرسمية الدولية، وفي نظر شعوب العالم الحر، الذي طالما مجد الثورة الفلسطينية وتبنى الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، فتضررت القضية الفلسطينية ومكانتها عالمياً كقضية لشعب تحت الاحتلال يسعى لتحقيق التحرر. كما استغل الاحتلال سنوات الانقسام الطويلة ليستكمل مخططاته بالقوة لتغيير واقع الأرض المحتلة وتدجين الفلسطينيين. وأدى الانقسام كذلك إلى حدوث شرخ عميق بين الشعب الفلسطيني الذي يعاني كل يوم مرارة الاحتلال وظلمه وبين طرفي الانقسام على جانبي الوطن، في وقت تحتاج فيه القضية الفلسطينية إلى مزيد من التلاحم والتعاضد للصمود أمام مخططات إسرائيل. واليوم وفي ظل هذه التطورات السياسية التي تفصح صراحة عن موقف إسرائيل بعدم نيتها التخلي عن أراضي الفلسطينيين، والدعم الأميركي للموقف الإسرائيلي، والصمت الغربي المقيت أمام هذا الواقع، وفي ظل ثورة الشباب الفلسطيني ورفضه لهذا الواقع وصموده بصدوره العارية أمام عنف آلة الحرب الإسرائيلية وإجرامها، ألم تصبح المصالحة واجبة حتى وإن كانت ستتحدى عقوبات إسرائيل وضغوط الولايات المتحدة والغرب وأجندات إقليمية؟

زر الذهاب إلى الأعلى