رحيل الفنانة الفلسطينية ليلى الشوا في لندن بعد صراع مع المرض

الكاتب العراقي فاروق يوسف: ليلى الشوا بندقية لسلام صامت وهبتنا بلادا مأهولة بالجمال

رحلت أمس الإثنين، في لندن، الفنانة التشكيلية الفلسطينية ليلى الشوّا (1940 – 2022) التي عبّرت خلال تجربتها، الممتدّة لأكثر من خمسين عاماً، عن رؤية مغايرة في مقاربتها للحدث السياسي والواقع الفلسطيني وفي توظيفها للتراث أيضاً.

قدّمت الراحلة في معظم أعمالها تساؤلات حرجة بمنظور نقدي وساخر وعبثي أحياناً، خاصّة منذ أواخر الثمانينيات حين فكّكت منظومة القمع التي تتعرَّض إليه المرأة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، وتسلّط النظام الأبوي، وسعيها للتمردّ على واقعها ومقاومته.

فاروق يوسف

“يعتقد البعض أن الفلسطيني وصفة جاهزة. كوفية وقبة الصخرة وخيمة لاجئ وبندقية مقاتل” مفردات حصرت الهوية الفلسطينية في ما يُرى من وقائع بطريقة ساذجة. وهو ما كرسه رسامون، حاولوا بحسن نية أن يكونوا رسلا للقضية فأخطأوا الرسم. هناك كثير من التوضيح الذي يخون الفن.

ليلى الشوا كسرت القالب وصنعت معادلة خفيفة وعميقة في الوقت نفسه. بالنسبة لها فإن مفهوم الهوية لا يتناقض مع حريتها فنانة تمضي إلى الأقصى مما يمكن أن يهبها الرسم من جماليات.

وفاؤها لقضية شعبها زاد من إخلاصها للرسم.ابنة غزة التي وهبت سنوات من عمرها من أجل نشر الثقافة بين الناس العاديين بدءا بالأطفال وجدت في الرسم فرصتها للتنقيب في المناطق الخفية من الشخصية الفلسطينية التي لم تمحها المأساة.

تنتمي الشوا إلى القلة التي لم تسقطها العاطفة المباشرة في الوصف.

قيمة أعمال الشوا كفنانة مستقبلية، تكمن في أنها ترتفع بالحدث عن مستواه الواقعي لتضفي عليه طابعا تاريخيا

على طريق آندي وارهول

لقد أعادت صياغة الحكاية الفلسطينية من خلال مزج مفردات التراث الشعبي بأحدث ما توصل إليه الفن من تقنيات، كانت في أساسها محاولة لاختراع مفهوم جديد للفن.

فنانة الـ”بوب” على غرار الأميركي أندي وارهول صدمت العالم عام 2013 ببندقيتها المقاومة المزيّنة بالزهور. وهو ما وضعها على لائحة الفنانين الأكثر شهرة في العالم.

لم تتخط الشوا عقدة الهوية المحلية فحسب، بل تمردت أيضا على ما هو متاح من أساليب فنية متداولة في العالم العربي.

غير أنها في الوقت نفسه وضعت كل ما تمكنت منه من تقنيات وأساليب في خدمة قضية شعبها. فبدت تلك القضية أكثر سعة وأشد عمقا من خلال أعمالها الفنية.

قيمة أعمال الشوا كفنانة مستقبلية، تكمن في أنها ترتفع بالحدث عن مستواه الواقعي لتضفي عليه طابعا تاريخيا

الشوا فنانة معاصرة وهي لذلك تمثّل حدثا استثنائيا في تاريخ الحداثة الفنية في العالم العربي. المرأة التي عرضت على العالم قضية شعبها من خلال فن يسابق الزمن تعلمنا أشياء كثيرة عن القيمة الإنسانية التي تنطوي عليها الثقة بالفن.

ولدت الشوا عام 1940 وهي ابنة رئيس بلدية غزة. بدأت دراسة الفن في سن مبكرة في مدرسة ليوناردو دافنشي لمدة سنة. حين تخرّجت من كلية الفنون في الجامعة الأميركية بمصر انتقلت إلى إيطاليا لتدرس الفن في جامعة سان جاكامو بروما. عادت بعدها إلى غزة لتعمل مفتشة للتربية الفنية بمدارس الأونروا. انتقلت إلى بيروت وأقامت معرضها الشخصي الأول عام 1970. ثم أقامت معرضها الشخصي الثاني في الكويت عام 1972. عادت إلى غزة عام 1975 حين بدأت الحرب الأهلية اللبنانية.

أن ترسم ما تحب

كانت سنوات بيروت الأكثر خصبا في سيرتها الفنية. وبعد بيروت تفرّغت الشوا لبناء صرح ثقافي لم تنته منه إلا عام 1987 وهو العام الذي غادرت فيه إلى لندن لتستقر هناك.

تعدّ سلسلة “جدران غزة” التي نفذتها عام 1994 الأكثر شهرة من بين أعمالها الفنية. تلك الأعمال المنفذة بتقنية الشاشة الحريرية “سلك سكرين” كانت رسائل شعب منسي، وهي في الوقت نفسه وثائق انتماء إلى الفن المعاصر.

لقد أعلنت الشوا من خلال تلك الأعمال عن انحيازها إلى الفن المفاهيمي. وهو ما جعلها قادرة على أن تصل بالحقائق التي تؤمن بها إلى مستوى لا تصل إليه اللوحة التقليدية.

ولأن الشوا فنانة خلاصات فإنها لا تتعب نفسها في الدخول إلى متاهة التفاصيل. ومثلما امتنعت في بداياتها عن الوصف فإنها لا تجد نفعا في الشرح. كل ما تفعله يصدر عن رغبة عميقة في مقاومة النسيان. عام 2011 نفذت نحتا سلسلة أعمالها “أجساد قابلة للتصرف” لتذكر بالأسطورة التي ينطوي عليها خيال الجسد. فالجسد الذي نراه واحدا إنما ينطوي على احتمالات متعددة.

تقول الشوا “إن التعبير عن القضية الفلسطينية، يتم من خلال التجربة الذاتية للفنان فإذا كان الفنان من أبناء المخيمات الفلسطينية، فإنه من الطبيعي أن تأتي أعماله للتعبير عن الواقع الذي يعيشه إنسان هذه المخيمات، وبالنسبة لي شخصياً، فقد وجه لي نقد من قبل البعض حول ما أسموه

غياب القضية الفلسطينية في أعمالي الفنية، وأنا أرفض هذا الوصف”، وتضيف “ذلك لأن أعمالي أفادت كثيراً من التراث الفلسطيني دون أن تكون مأساوية الطابع.

لقد رسمت القدس في أشكال عديدة، منها ما يعبّر عن المأساة ومنها ما له طابع زخرفي، وكان هدفي هو أن أرسم ما أحب أن أرسمه، فهذا بلدي، وهذا تراثي، وأنا أعتقد أن هذا كاف لكي يعكس فلسطينيتي، وعندما أعرض لوحاتي في معارض أجنبية أو عربية يدرك المتفرج مباشرة أنني فنانة فلسطينية دون أن أقدّم صوراً مباشرة، وأنا أعتبر المباشرة في الفن عملا دعائيا، وليس من الضروري أن ينخرط في هذا الاتجاه كل الفنانين الفلسطينيين”.

ترسم الشوا ما تحب. غير أن تلك الجملة لا تعبّر عن الحالة تماما. فالشوا تظل ابنة للحالة الفلسطينية. وهو ما عبّرت عنه أعمالها في مختلف مراحلها. وإذا ما كانت قد تحاشت السقوط في النمط المتداول من الأشكال فإنها لم تمتع نفسها بترف خيالها كما تستحق.

كانت فلسطينيتها تطاردها بالرغم من أنها حاولت أن تكون فلسطينية بطريقة مختلفة. وهي طريقة تبدو بالنسبة للبعض كما لو أنها نوع من الترف البلاغي. فالشوا تطرح لغة أخرى للتعبير عن الحق الفلسطيني، هي لغة الجمال.

رسوم مأهولة بالحكاية الفلسطينية

فنانة الألم وخياله

كانت بندقيتها رسالة سلام إلى العالم. ولطالما لجأت الفنانة إلى أسلوب الملصق لتكون واضحة. هناك ما يمكن أن نقوله للناس العاديين لكن بطريقة تحترم الذائقة الجمالية.

تؤمن الشوا بلغة الاختزال التي تبقي للعمل الفني قدرته على أن يحتفظ بقوة جماله بالرغم من أنه يعتمد على مفردات مؤثرة على المستوى الشعبي. فضيلة هذه الفنانة تكمن في أن ما ترسمه يظل محتفظا برقي معانيه الجمالية بالرغم من أنه يخاطب عينا بريئة، تبحث عما يعينها على مقاومة الواقع.

قيمة أعمال الشوا تكمن في أنها ترتفع بالحدث عن مستواه الواقعي لتضفي عليه طابعا تاريخيّا. هذه فنانة مستقبلية. إنها تمشي بالألم إلى أقصاه لكي تضعه في مواجهة خياله.

ولأنها تلعب. هي فنانة خُلقت لكي تلعب. فإنها ترسم زهورا. من خلال تلك الزهور يمكنها أن توجّه رسالة رمزية إلى العالم. أناقة تلك الرسالة يمكن أن تكون مؤثرة أكثر من الصراخ الذي هو نوع من الضجيج. وكما يبدو فإن خيال الألم قد وهب الفنانة الكثير من هدوئه.

تعلّمت الفنانة من الزخرفة العربية مبدأ التكرار. وهو تكرار يذكر بالحكاية التقليدية التي استلهمتها لتنفتح بها على العالم. بطريقة أو بأخرى فإن رسوم ليلى الشوا تبدو مأهولة بالحكاية الفلسطينية. غير أنها حكاية قابلة للعب الفني. من خلالها تقول الفنانة ذاتها. تتصل بما ترغب في أن يكون واقعا. تود أن تضع حواسها في خدمة ما توصلت إليه من حقائق جمالية.

الرسم بالنسبة للشوا ليس نقيضا للواقع ولكنه في الوقت نفسه ليس متمما له. إنها تخترع من خلال رسومها صورة لفلسطين التي تحلمها. فلسطين التي لا تقع في الجوار بل في قلب اللغة التي تختزل الجمال.

ليلى الشوا فنانة مستقبلية لا ترى في فلسطين نوعا من الماضي. إنها تهبنا بلادا مأهولة بالجمال. بطريقة مختلفة ترسم الشوا فلسطينها.

 

زر الذهاب إلى الأعلى