تلاوين الغاز في بحر غزة
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

يوم الثلاثاء قبل الماضي، 18 أكتوبر، اتفقت مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، على تطوير حقل للغاز الطبيعي قبالة شواطئ قطاع غزة..

 

الاتفاق الذي لم تعلن تفاصيله بانتظار تشكيل حكومة إسرائيلية تفرزها انتخابات الأول من نوفمبر القادم، كان سبقه اتفاق بين تحالف شركات مرخصة لتطوير الحقل، يضم الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس”، مع صندوق الاستثمار الفلسطيني- وهو شركة مساهمة عامة يرأسها المستشار الاقتصادي الأول لرئيس السلطة الوطنية -، وشركة اتحاد المقاولين للنفط والغاز”CCC” التي أسسها رجل الأعمال الفلسطيني لبناني الجنسية حسيب الصباغ.

 

خصوصية هذا الاتفاق بين فلسطين ومصر وإسرائيل أنه يربط زمنيا وإجرائيا بين موضوعين كانا طوال السنوات شائكين: غاز غزة وحدودها البحرية..

 

مثله في ذلك مثل الاتفاق الذي أبرمه لبنان مع إسرائيل قبل أسابيع، ووصفه الرئيس الأمريكي بأنه صناعة للتاريخ. ولم يمنع ذلك كثيرين في الطرفين من وصفه بالتفريط.

 

ترسيم الحدود في موضوع استثمار أي غاز بحري، يقتضيه تحديد التبعيّة السيادية للآبار، وكذلك خط سير الأنابيب التي تنقل الغاز للبر حيث التكرير والمعالجة..

 

في موضوع غزة كان ذلك ضروريا مع مصر التي وقعت مع إسرائيل (في اليوم التالي) اتفاقية غاز تمرّ أنابيبه بالمياه الفلسطينية وصولا إلى العريش حيث تجري معالجته.

 

ولأن آبار الغاز البحرية يحصل أحيانا أنها تكون متاحة تسهل سرقتها، لذلك تكون مناسبة ترسيم الحدود مع طرف واحد فرصةً لبحث الترسيم مع الأطراف المحاذية الأخرى، وهو ما يحصل الآن بين لبنان وسوريا التي كانت منحت شركة روسية امتياز تنقيب في المياه اللبنانية.

 

في الشأن الفلسطيني بهذا الخصوص، سيشكل اتفاق الحدود البحرية مع مصر إغلاقا مستحقا لادعاءات طالما تحدثت عن تنقيب واستثمار مصري في آبار يقال إنها ضمن الحدود الفلسطينية..

 

أما ترسيم الحدود الفلسطينية البحرية مع إسرائيل فهو كما قال المستشار الاقتصادي للرئيس موضوعٌ ينتظر وقته ويحتاج لفزعة دولية، وكلاهما ليس متاحا الآن.

 

هذه واحدة من أوجه الشبه والاختلاف بين اتفاقيتي الحدود البحرية للبنان وفلسطين؛ فالاتفاقيتان حصلتا مع بلدين عربيين فيهما للميليشيات المسلحة المحسوبة كليا أو جزئيا على إيران، (حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي) قوة تعطيل لأي اعتبارات سياسية واقتصادية، واستخدام هذه القوة أو تحييدها يُعتبر شيئا استثنائيا يستحق الجدل.

 

من هذا الجدل، سؤالٌ عن الذي استجدّ وجعل إسرائيل التي كانت دوما ترفض السماح باستخراج الغاز الطبيعي قبالة سواحل قطاع غزة، توافق الآن على السماح للسلطة الفلسطينية باستخراج الغاز الطبيعي من البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل القطاع الذي تحكمه حماس المدرجة إسرائيلياً وأمريكياً ضمن قوائم الإرهاب؟

 

بعض الجواب هو في التفسير المعلن للتزامن بين اتفاقي لبنان والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل، من زاوية أن أوروبا تستعجله لتوفير حلّ يغنيها جزئيا ولو بعد حين، عن الارتهان للغاز الروسي..

 

هو هدف قديم للولايات المتحدة سبق الحرب في أوكرانيا، وبدأ التخطيط له قبل عقدين، بمشروع لم يُقدر له النجاح، بمدّ أنبوب غاز من الخليج إلى الشاطئ الشرقي للمتوسط، ومنه إلى أوروبا.

 

وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا مطلع العام الحالي ليجعل الموضوع ملحّا لواشنطن أُفردت له وساطات ومبعوثين، واستنفرت علاقاتها للمساعدة في تعميمه بالشرق الأوسط.

 

تفسيرٌ قد لا يكفي، لكنه يبدو مرتبطا بالاتفاق المصري الإسرائيلي الأوروبي الذي وقع في حزيران الماضي بالقاهرة، وينص على نقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى محطات الإسالة في مصر ومن ثم يشحن شمالا إلى السوق الأوروبية، وهو اتفاق سبق في التوالي السريع اتفاقين استثنائيين بين لبنان وفلسطين مع إسرائيل.

 

لا تكتمل صورة هذين الاتفاقين إلا باستذكار أن وزيري البترول والطاقة، المصري والإسرائيلي، كانا في فبراير 2021 اتفقا على العمل لاتفاقية حكومية تربط حقل غاز “ليڤياثان” في إسرائيل بوحدات إسالة الغاز الطبيعي بمصر عن طريق خط الأنابيب البحري..

 

يومها جرى البحث في ضرورة شمول الاتفاق لمياه غزة باستثمار فلسطيني لبئري غزة مارين 1 ومارين 2 اللذين اكتشفا العام 2000 وظلا معطلين لأسباب شتى بات يتوجب الآن تجاوزها..

 

فأي خطوة من هذا النوع اللازم لمنظومة غاز شرق المتوسط، ستحقق أيضا نقلة نوعية في مفهوم السلم الجديد في الشرق الأوسط وذلك من خلال انعكاسها الإيجابي على حياة الناس ومعالجة الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة.

 

اتفاق تطوير حقول غزة يتضمن عددا من الفرص المختلفة لاستغلال الطاقة للفلسطينيين، من خلال مشاريع غاز ضرورية للقطاع وتسعف في تشغيل محطات للطاقة الكهربائية في الضفة.

 

قبل ذلك، في العام 2018، كان وُقّع بين مصر وإسرائيل اتفاقٌ لتصدير الغاز الطبيعي من حقلي تمار ولوثيان البحريين الإسرائيليين جرى ترسيته على شركة مصرية خاصة، في خطوة نوعية وصفتها إسرائيل بـ”أهم اتفاق منذ توقيع معاهدة السلام”، وكان ذلك بمثابة بناء قاعدة هيكلية لجيو سياسية -اقتصادية جامحة في إقليم شرق المتوسط لجعل التعاون المشترك في مجال الطاقة أرضيةً للسلام الذي يُقلص أو يلغي الحروب، بِجعل كلفتها فوق طاقة الاحتمال.

 

إنشاء بنية تحتية للطاقة، مترابطة وقوية في منطقة شرق المتوسط، بشعارها تعظيم موارد واحتياطيات الغاز الطبيعي في المنطقة وربطه بالحياة اليومية للمواطنين، تراه أمريكا وأوروبا يحوّل سلاح حزب الله في لبنان وسلاح حماس في غزة والضفة والقدس إلى خطرٍ منظور على الاستقرار المعيشي للناس.

 

كلا الاتفاقين تمّ بوساطات دولية وعربية بعضها مستور. مع ملاحظة أن إيران في الحالتين لم تعترض، دون أن يُعرف الثمن الذي تقاضته أو قايضت به الولايات المتحدة.

 

فرقٌ في الحالتين اللبنانية والفلسطينية أن حزب الله كان شريكا حاميا للاتفاق، أما حماس وقد استُبعدت من اتفاقية مارين غزة فقد استهدفت الاتفاق بوابل من الاتهامات وصفته بأنه تفريط وفساد وسوء إدارة من فتح والسلطة الفلسطينية لملف الغاز ولبقية الثروات الوطنية.

 

خسارة حماس في اتفاق الغاز مضاعفة ٌعدة مرات ليس فقط لأن ذلك سيضرب سّلطتها الإدارية على غزة ومياهها، بل أيضا لأن ما حصل أعاد تذكير المرجعيات القانونية والمجتمع المدني بأنهما، حماس والسلطة والتشكيلة الكاملة التي استحوذت القرار السياسي تحت شعار الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، تشاركت كلها في السكوت الطويل على موضوع بأهمية السيادة المفترضة على المياه وثرواتها الكبيرة.

 

صحيح أن مخزون حقل “مارين غزة “يزيد قليلاً على تريليون قدم مكعب (مثل حقل كاريش)، مردوده متواضع مقارنة مع ضيق الحال، عمره الإنتاجي عشر سنوات، كلفته تتجاوز البليون دولار ويحتاج ربما إلى 15 عامًا لإعداد بنيته التحتية، إلا أن المياه الإقليمية لغزة (حسب دراسات دولية متخصصة) تسمح لصاحب السلطة والقرار أن يفتح الملف ويطالب… وهو الأمر الذي لم يحصل، وبات الآن يجد من يحكي به، لغير صالح حماس وفتح والسلطة.

 

ملف ثروة الطاقة الفلسطينية مكتوم حتى عن معظم ذوي الاختصاص. لم ينشر أحد في موقع القرار برام الله وغزة -على سبيل المثال- توثيقا يوضح ما إذا كان اتفاق أوسلو فعلا يمنح مشروع الدولة الحقول بالكامل داخل المياه الإقليمية الفلسطينية. كما لم تُحسم الروايات الإسرائيلية التي تقول إن رئيس الوزراء السابق إيهود باراك كان في العام 2001 منح الرئيس ياسر عرفات حق ملكية حقل “غزة مارين 1” كبادرة حسن نية، حيث عدلت الحدود البحرية النظرية في المنطقة بحيث تقع منطقة غزة البحرية بأكملها في المياه الفلسطينية بما فيها المنطقة الاقتصادية.

 

كما ولم يجادل أحد بين القيادات الفلسطينية في أهليّة الاستفادة من القانون الدولي، الذي يضمن لجميع الدول التمتع ببحر إقليمي بطول 12 ميلاً (19 كم) وجرف قاري يمتد 200 ميل (320 كم). وهذا الأمر كما يؤكد خبراء في قوانين البحار يمكن للفلسطينيين المطالبة بـ6600 كيلومتر مربع من الأراضي البحرية – خمسة أضعاف ما يتحدثون به حاليًا.

 

الوضع القانوي السيادي لمياه غزة الاقتصادية التي يقع فيها الحقل البحري غير واضح كفاية. لم تتنازل إسرائيل رسميًا عنه باعتبار المياه منطقة عسكرية لها. ثم أن حق التشغيل والاستثمار تحكمه قوانين دولية تتقاطع فيها صلاحيات الحكومة مقرها رام الله مع حقوق ومقيدات السلطة المحلية في غزة باعتبارها مجرد محافظة..

 

القوانين تلزم رام الله بالتشاور مع حماس كسلطة محلية بقوة الأمر الواقع في غزة، لكن قوانين أخرى تمنع على حماس إعاقة تنفيذ الاتفاقات السيادية التي تبرمها رام الله، ثم أن المناطق البحرية الأخرى، غير مارين غزة 1 و2 تتقاطع فيها حقوق والتزامات الشركات الدولية العاملة.

 

هذا حالٌ بات يتحدث كثيرون بأنه تقصيرٌ متوارث من طرف فتح وحماس، وجاء اتفاق الغاز البحري اليوم ليجعله موضوعا جدليا مفتوحا.

 

نقطةٌ أخرى تستحق الإشارة والجدل. غاز غزة كما جرى التفاوض على استثماره، ليس للدولة بل هو للشركات. بعض عوائده ستعود للسلطة من واقع أنها تمتلك حصة في شركة مساهمة عامة، ضمن ائتلاف هو الذي تفاوض وسيدير الماكنة التشغيلية.

 

أصحاب القرار الاستثماري في مشروع مارين غزة كما كان أقره مجلس الوزراء الفلسطيني في أبريل 2018 هم صندوق الاستثمار الفلسطيني (شركة مساهمة عامة) بقوة قرار 27.5%، وشركة اتحاد المقاولين (ليست فلسطينية) بقوة قرار مماثلة 27.5%، وشركة عالمية لتطوير المشروع بقوة قرار 45%، وهي التي رست على الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (ايجاس) لتدير المشروع.

زر الذهاب إلى الأعلى