وعد بلفور دُفع ثمنه ذهباً
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
جديدُ وعد بلفور، في ذكراه السنوية الـ103 التي صادفت الأسبوع الماضي، هو التقارير التي أفادت بأنه كان صفقة مدفوعة الثمن بالذهب، بين ممثل عائلة روتشيلدز في بريطانيا، الزعيم غير الرسمي للجالية اليهودية، ليونيل والتر روتشيلد، وحكومة ديفيد لويد جورج ممثلة بوزير خارجيته آرثر بلفور.
تذهب المعلومات الجديدة إلى أن الحكومة البريطانية في حينه، كانت قد وقعت تحت طائلة العجز في تمويل النفقات المتزايدة للحرب العالمية الأولى.
ولجأت الحكومة لروتشيلدز طلبا للتمويل، تماما مثلما كانت فعلت بالطلب منهم تمويلها وحلفاءها، إسبانيا والبرتغال، خلال الحروب النابوليونية أعوام 1814- 1815، ولكل مساعدة من هذا النوع مقابلها السياسي.
ليس جديداً القول إن الحكومة البريطانية لجأت لروتشيلدز، أباطرة الذهب والبنوك، أثناء الحرب العالمية الأولى من أجل الدعم المالي؛ فقد جاءت بهذا الخصوص إشارة عابرة في نصوص الأرشيف الرسمي لهذه العائلة، لكن دون أية تفاصيل عما آلت إليه هذه الاستعانة.
حتى إذا استجدّت الآن معلومات عن أن ذلك أخذ شكل صفقة البيع والشراء المتمثلة بوعد بوطن قومي لليهود في فلسطين، فإن الموضوع يتحول من قضية طالما جرى تلوينها بزواق سياسي قابل للجدل، لتصبح بعد الآن صفقة بيع وشراء نقدي، بكل ما في ذلك من مطاعن أخلاقية وقانونية يستخدمها من لديه الرغبة والجلد على المتابعة.
في تاريخ العلاقة بين روتشيلدز والنظام البريطاني تفاصيل موصولة على امتداد يزيد عن قرنين، تسعف في إعادة قراءة وعد بلفور في سياقه.
بداية بروز الروتشيلدز كانت في ستينيات القرن الثامن عشر بمدينة فرانكفورت الألمانية، عندما أسس عميد العائلة اليهودية الأشكنازية ماير أمشيل شبكة مصرفية أوروبية وزّع عليها أبناءه الخمسة ليشكلوا فيما بعد أول بنك متعدد الجنسيات في التاريخ الحديث.
في عام 1777، وصل الابن ناتان روتشيلد إلى مانشستر في بريطانيا مرعيّاً من عائلة هيسّه الألمانية الذين تربطهم المصاهرة مع العائلة المالكة البريطانية، ثم انتقل ناتان محظيّاً بالرعاية إلى لندن لتأسيس شركة نسيج، أعقبها بإنشاء بنك باسم العائلة.
وتحفلُ كتب التاريخ بتفاصيل غير مملة عن الكيفية التي استطاع فيها ناثان مراكمة ثروة هائلة من خلال شراء سندات الحكومة البريطانية، مستفيداً من معلومات روتشيلدز عن قرب هزيمة نابوليون، كونهم هم الذين كانوا مولوا بالذهب حاجة بريطانيا وحلفاءها لضمان هزيمته.
في عمق واتساع العلاقة الخاصة بين روتشيلدز والنظام في لندن، معروفٌ أنهم هم الذين مولوا عملية شراء بريطانيا، عام 1875 لحصة خديوي مصر في قناة السويس. وفي عام 1887 كانوا أداة بريطانيا وفرنسا في الاستثمار بمناجم الماس (دي بيرس) في جنوب أفريقيا.
وعلى هذه الخلفية الجيوسياسية الواسعة التي ظل فيها روتشيلدز حلفاء وممولين بالذهب للنظام البريطاني، أبدعوا في جعل وسط لندن عاصمة مالية للعالم وفي صلبها احتكار سلطة المرجعية في بورصة الذهب وتسعيره.
كانوا مالكين للبنك المركزي البريطاني”بانك أوف إنجلاند”، وما زالوا العمود الفقري للفيدرالي الأمريكي على نحو غير مفهوم أو متسق. هددهم الرئيس السابق دونالد ترامب بتصحيح الوضع وتغيير تركيبة البنك المركزي المريبة، لكنه لم يستطع تنفيذ تهديده.
واحد من الطقوس الخرافية التي أرساها وأدامها روتشيلدز في تصنيعهم للندن عاصمة وبورصة أممية للذهب، هو تخزينه سبائك في أقبية سرية تحت شوارع مركز المال فيها.
في ثلاثينيات القرن الماضي، بنوا لبنك إنجلترا خزائن تحت الأرض لضمان المزيد من الاحتياطات الأمنية. الوصول إلى تلك الأقبية وفتح الصناديق ما زال يتم بمفاتيح طول الواحد منها 3 أقدام، يرونها أكثر أمانا من الأقفال الإلكترونية.
في هذه الخزائن والسراديب، يوجد اليوم حوالي خُمْس الذهب الذي تمتلكه حكومات العالم، بأرقام أخيرة تصل به إلى 7700 طن تزيد قيمتها عن 330 مليار دولار، ليصبح ثاني أكبر حيازة عالمية بعد الحكومة الأمريكية.
كمْ من هذا الذهب ملكية خاصة لروتشيلدز ترى فيه ملاذا آمنا من أية مفاجآت في النظام المالي والنقدي العالمي، كالذي يلوح الآن في تداعيات حرب أوكرانيا؟ لا أحد غيرهم يعرف، لكنه بالتأكيد كمٌّ هائل، تضاعفت قيمته عشرات المرات خلال العقدين الماضيين نتيجة ما شهدته أسعار هذا المعدن من ارتفاعات مطردة.
المعلومات الأخيرة التي كشفت عن أن وعد بلفور كان صفقة دفع روتشيلدز ثمنها ذهباً للحكومة البريطانية، هي المعلومة التي يمكن أن تفسر لماذا كان الوعد في رسالة وزير الخارجية موجّهاً لليونيل روتشيلد، وليس لرئيس المنظمة الصهيونية، في حينه، حاييم وايزمان.
وفي هذه المعلومة المستجدة، ما يمكن أيضا أن يفسّر لماذا التزمت بريطانيا بمتابعة تنفيذ صفقة البيع والشراء لفلسطين حتى اليوم، كونها عقد بيع وشراء، بينما لم تلتزم بوعودها الأخرى التي جاءت في نفس السياقات بشأن الدولة الواحدة التي كان مفترضا أن تقوم في المناطق العربية شرق المتوسط والتي غادرتها تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
الوثائق الرسمية لروتشيلدز وصفت وعد بلفور بأنه “الفصل الافتتاحي في قصة لم تنته بعد”.. توصيف فيه من الحرفة اللغوية والسياسية قدر يسمح لقراءات يجوز فيها أن تشتط المقاربات عندما تتزامن المصادفة
في يوم الثاني من نوفمبر الحالي مرت ذكرى وعد بلفور، وجاء هذه السنة بنفس يوم إعلان بنيامين نتنياهو فوزه بالعودة للسلطة مصحوبا بائتلاف فاقع التطرف، إلى حدّ إرعاب الكثيرين من يهود العالم وجعلهم يجهرون بالقول إن إسرائيل عدو نفسها، وإنها دخلت النفق المظلم الذي ما عادت فيه بريطانيا المتداعية قادرة أن تحفظ وعدها الذي قطعته قبل 103 سنوات.
كانت مزامنة من النوع الذي يتطيّر به رعاة الأساطير، قُرّاء الأرقام والمصادفات المحفزة للتشاؤم.
حلقة التشاؤم ربما تكون اكتملت يوم أمس الثلاثاء لدى روتشيلدز الذين دفعوا ثمن وعد بلفور ذهباً، فقد انعقدت دائرة المصادفات المتزامنة بموت عميدهم في بريطانيا إيفان روتشيلد المعروف بعلاقته الاستثنائية مع الملك تشارلز الثالث.