إيران ومحاولات إحياء الإمبراطورية الفارسية* جيمس ستافريديس
النشرة الدولية –
غنى السيناتور الراحل جون ماكين، إبان الحملة الانتخابية لعام 2007، أغنية ساخرة تدعو لقصف إيران بكل قوة وضراوة. وصار هذا الشعور تتردد أصداؤه الآن بين أروقة إدارة الرئيس دونالد ترمب، وهو أمر مفهوم على أي حال.
ويواصل الإيرانيون بسط نفوذهم في غير موضع من الشرق الأوسط: تطويع الوكلاء الموالين لتهديد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ودعم حكومة بشار الأسد في حربها المروعة في سوريا، وتأجيج نيران الحرب الأهلية في اليمن عبر دعم المتمردين الحوثيين، والسعي الحثيث إلى ضرب استقرار العراق، فضلاً عن اكتساب مزيد من الزخم في لبنان.
وصرنا الآن في مواجهة تحول جديد للنزعة التوسعية الإيرانية في المنطقة، ذلك الذي يبرهن على طموحات طهران وروابطها المتنامية مع روسيا: إذ أعلنت القوات البحرية الإيرانية شروعها في عملية انتشار مؤقتة لمدة خمسة أشهر في غرب المحيط الأطلسي. وفي حين أنه من غير الواضح عدد السفن الحربية الإيرانية المشاركة في ذلك، فإن المصادر في طهران تفيد بأن القافلة البحرية تشمل المدمرة «ساهاند» المبنية حديثاً. ومن المقرر لبعض القطع البحرية أن ترسو في فنزويلا، وهي إحدى الدول القليلة في نصف الكرة الأرضية الغربي التي ترحب بالوجود العسكري الإيراني.
وبطبيعة الحال، فإن وجود حفنة من المقاتلين الإيرانيين في المياه القريبة من الولايات المتحدة، لن يستدعي إرسال أي من الأساطيل الأميركية إلى أي مكان على الإطلاق، ولا ينبغي مجرد التفكير في ذلك. فالسفن البحرية الإيرانية أقدم بجيلين كاملين من أي مدمرة أميركية في الخدمة الحالية، كما أنها لا تملك شيئاً من قدرات توجيه الضربات القوية التي تحظى بها الحاملات الأميركية الكبيرة، أو الغواصات العاملة بالطاقة النووية، أو القطع البحرية البرمائية. كما أن البحرية الإيرانية تفتقر كثيراً إلى وجود الصواريخ فائقة التعقيد الموجهة للهجمات البرية، على غرار صواريخ «توماهوك كروز» الأميركية الشهيرة.
بيد أن هناك جانبين من الانتشار البحري الإيراني لا بد أن يسترعيا الانتباه، وربما مزيداً من الاهتمام: أولاً، أن ذلك الانتشار سوف يتم بالتعاون الأكيد مع القوات البحرية الروسية، التي كانت ترفع من دورياتها البحرية على خطوط التماس مع البر القاري الرئيسي للولايات المتحدة. ثانياً، يعد الانتشار البحري الإيراني إشارة إلى النظرة التي يرى الإيرانيون بها أنفسهم فعلاً كقوة عالمية ذات تأثير على الصعيد الدولي.
ومن بين المشكلات الواضحة لدينا في صياغة الاستراتيجية الإيرانية، هي عدم القدرة الكاملة على فهم التاريخ، والثقافة، والصورة الذاتية التي يتخذها الشعب الإيراني عن نفسه. إننا ننظر إلى إيران من زاوية القوة الإقليمية من الحجم المعقول، ذات الموارد الطبيعية الهائلة والتعداد السكاني الكبير. بيد أن الشعب الإيراني يعتبر نفسه الوريث الحقيقي والوحيد للإمبراطورية الفارسية البائدة، التي كانت في أوج مجدها وذروة قوتها تسيطر على ما يقارب نصف سكان العالم المعروف وقتذاك. ولكن في تحول طفيف للجينات التاريخية، كان بإمكان الفرس القدامى غزو دول المدن الإغريقية القديمة قبل 25 قرناً من الزمان، وربما نجحوا في إعاقة ميلاد الإمبراطورية الرومانية وتطورها في المقام الأول.
لذا، هل يمكن اعتبار وصفة جون ماكين هي الحل الناجع؟ ليس في الوقت الراهن، ودعونا نأمل ألا نكون في حاجة للجوء إلى الحلول العسكرية على الإطلاق. بدلاً من ذلك، ينبغي علينا صياغة استراتيجية متماسكة إزاء التعامل السليم مع إيران، تلك التي ترتكن على ثلاثة مرتكزات.
أولاً، علينا زيادة جهود جمع الاستخبارات التي تركز على المناقشات الداخلية الإيرانية بشأن الاستراتيجية العالمية. على سبيل المثال: شكل التعامل ما بين الحرس الثوري الإيراني والجيش الإيراني النظامي. وفي حين أنه يمكن جمع كم هائل من المعلومات بطريق الرصد العام والأنشطة السيبرانية، فإنه من المنطقي العمل عن كثب وبشكل وثيق مع أجهزة استخبارات حلفائنا في المنطقة. وحال عملنا على جمع البيانات المطلوبة بمزيد من التعمق والتركيز، علينا تطبيق مرشح لتصفية المستخلصات التاريخية والثقافية الإيرانية، للخروج بفهم أكثر تطوراً ودقة للأهداف والغايات الإيرانية، داخلياً وإقليمياً وخارجياً.
ومن مفاتيح العمل الثانية، هناك التعاون العسكري مع حلفائنا وشركائنا وأصدقائنا في المنطقة وعلى مستوى العالم. فمنذ إدارة الرئيس السابق جيمي كارتر، كانت المواجهة بين طرفي النقيض: الولايات المتحدة مقابل الجمهورية الإيرانية فحسب، بدلاً من المجتمع الدولي بأسره في مواجهة إيران. إن أغلب التدخلات والاستفزازات الإيرانية المستمرة على صعيد الشرق الأوسط وجنوب وشرق آسيا الوسطى، تعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ناهيكم عن ذكر برنامجها النووي والصاروخي.
وعلى الصعيد الإقليمي، لدينا المملكة العربية السعودية، على اعتبارها من دعائم المواجهة ضد النظام الإيراني، والتي قد تشتمل على كثير من البلدان العربية الأخرى، في وجه المد الإيراني الزاحف على ربوع المنطقة. وربما تكون اللحظة قد حانت لإعادة فتح المناقشات بشأن ملف «حلف الناتو العربي» من جديد.
ثالثاً، علينا مواصلة استخدام العقوبات الاقتصادية الموجهة. وبطبيعة الحال سوف نجد أن بعض الدول الكبيرة – على غرار روسيا والصين – خارج التعاون في هذا المجال. غير أن الولايات المتحدة وأوروبا تمثلان مجتمعتين أكثر من 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفي حين أن ردود فعل الجانب الأوروبي لا تزال غير واضحة بشأن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، فإنه يمكننا إعادتهم مجدداً إلى جانبنا، من خلال إعادة التركيز على الجهود الدولية المبذولة على الحروب بالوكالة التي تديرها إيران في الشرق الأوسط، بخلاف ملف الصواريخ الباليستية الشائك.
أما بالنسبة إلى البحرية الإيرانية، فهي تملك قدرات معتبرة لإحداث بعض الأضرار في الخليج العربي وشمال المحيط الهندي. وتملك إيران بعض غواصات الديزل الخفية، وهي توظف مجموعات الزوارق الصغيرة الضاربة في تهديد السفن الحربية الكبيرة، بالإضافة إلى خبرة واضحة في زرع الألغام البحرية المهددة لممرات الشحن الدولية. غير أن الانتشار البحري الإيراني المذكور في المياه البعيدة نحو السواحل الأميركية ليس إلا عرضاً مثيراً للعضلات الناتئة، بقدرات شبه متقدمة وطموحات شبه متحققة، ذلك الذي ينبغي أن يلفت انتباهنا.
ولكن توجيه الضربات العسكرية المباشرة ضد إيران في الوقت الراهن هو من الأخطاء الفادحة غير المدروسة. وأعتقد أن صياغة المقاربة البناءة القائمة على التحليل العميق والفهم الدقيق للأهداف والخطط والغايات الإيرانية، سوف تكون من المحاولات الجيدة في هذا السياق. ولا تزال القنابل بحوزتنا إن اضطررنا لاستخدامها في أي وقت من الأوقات.
* أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»