حيطان الدفع للصحافة الورقية
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
مَن لا يزال ينتظر مِن الحكومات في المنطقة أن تتحرك جادة لإنقاذ ما بقي من الصحف الورقية، فهو إما لا يهمّه، أو لا يريد، أو أنه لا يعرف ما يجري.
فلا مصلحة سياسية للحكومات في إعادة تدوير الإعلام التقليدي المُحسّن، لأن لديها ما يغنيها عنه، سواء من الصحف الورقية المملوكة للقطاع العام – علنًا أو بالوكالة أو مِن الإعلام الرقمي المكين، بأكثر مما يراه الناس.
أسعار ورق الطباعة ارتفعت منذ الحرب في أوكرانيا بأكثر من 20%، ومع الاختلالات المنظورة في أسعار الفائدة ومكوّنات الطباعة والإنتاج الصحفي، فإن آخر التقديرات تذهب إلى أن كلفة التشغيل في صناعة الصحف سترتفع العام المقبل بحوالي 35%.
هذا يعني أن هذه الصحف المملوكة للقطاع الخاص والمرهون معظمها للبنوك، قد تشهد موجات تسريح جماعي بضجة لا تقل عن الذي حصل في “تويتر” وبقية منصات التواصل الاجتماعي خلال الأشهر القليلة الماضية.
مشكلة الصحافة الورقية العربية التي سجّتها على فراش التنفس الاصطناعي، لم تعد فقط مشكلة تدنّي الموارد الإعلانية التقليدية التي ارتحلت إلى وسائط الإعلام الرقمي، وهي في ذات ترعى مصلحتها، وهذا حقها، فتدني الموارد رتّب جفافًا في المحتوى الخاص لهذه الصحف ألغى وظيفتها وحوّلها إلى عبءٍ مستعصٍ.
هذه المشكلة المتمثلة بتراجع الموارد المالية الإعلانية، كان أول من واجهها في العالم؛ صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، في أواسط تسعينيات القرن الماضي، عالجتها بتجريب ما يسمى بـ”جدار الدفع”، المتمثل بتقييد وصول القارئ للمحتوى الخاص للصحيفة، وبالذات الإخبار، إلا عبر الشراء بالقطعة أو باشتراك مدفوع.
في البداية لم يكن سهلًا تمرير نظام “جدار الدفع”، لأن هذا المستجدّ بدا وكأنه اختراق للوعد الديمقراطي العميق بتقديم المعلومات للمواطنين دون خوف أو محاباة، وجعلها في متناول الجميع من أجل تعزيز العقلانية العامة، على أساس المساواة في الوصول للحقائق ذات الصلة.
هي الصيغة الأمريكية للذي يقوله معظم وزراء العرب ورؤساء تحرير الصحف المحتضّرة، من أن الصحف الورقية جزء من الأمن الوطني، وأنها بهذه الصفة تستحق الدعم والتعكيز حتى لو كانت ميتة تمشي.
كان يُقال إن الصحافة سلطة رابعة، مع معرفة جميع القائلين إن ذلك غير حاصل.
جدارُ الدفع الذي يمنح مشتري الخدمة الإخبارية حق الحصول عليها، تعمّم في العالم، وإن بقيت هناك صحف مثل “غارديان” البريطانية تتردد في تطبيقه.
حتى إذا انتهى العقد الثاني من القرن الحالي تحوّل 70% من الصحف المعتبرة في أوروبا والولايات المتحدة إلى اعتماد برامج حظر القراءة غير المدفوعة عبر الإنترنت، وزادت أوروبا وأستراليا على ذلك بتوسيع مفهوم جدار الدفع لتجبر الشركات الناشرة لـ”فيسبوك” و”تويتر” و”غوغل” على الدفع للصحف والفضائيات مقابل المحتوى الذي تأخذه منها وتتيحه مجانًا للصحف والمواقع الإخبارية التي تعتمده (ربما قصّ ولصق) دونما جهد مهني يتوقعه ويستحقه القارئ.
نظام “جدار الدفع” الذي تعتمده “الفيفا” في مباريات مثل كأس العالم الحالي، انتقل من الصحف الورقية إلى “نتفليكس” وأخواتها، ثم أخيرًا إلى “تويتر” التي استخدم مالكها الجديد، إيلون ماسك، عبقريته الاستثمارية ليجعل الخدمة المميزة لديه مدفوعة الثمن.
قبله اعتمدت منصّة “تويتش” المتخصصة في البث التدفقي لألعاب الفيديو، ذات الصيغة ونجحت فيها بتعويض انخفاض العوائد المالية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، والمواكبة التنافسية.
وفي الطريق إلى “جدار الدفع”، تتجه “تيك توك” التي صنعت إدمانًا على الترفيه بقوة تمكين جعلت الناشئة يهجرون الصحف والمواقع والتلفزيونات، ويتركونها لكبار السن ممن تجاوزوا الأربعين.
وجهة نظر “ماسك” في تدفيع أصحاب الحسابات المميزة ثمن اختراق “جدار الدفع”، هي أن “حقك في إبداء الرأي مصونٌ مجانًا، لكن توصيل رأيك للناس له ثمن”.
هو نفسه تقريبًا الذي اعتمدته صحف عربية نجت من الموت، مثل “النهار” اللبنانية، وقبلها صحف ورقية أوروبية، وأمريكية، ويابانية، عتيدة تعرف الحقائق البديهية التي تميّز ما بين المحتوى المخصص لتعبئة الفراغات، والآخر الذي تحميه حيطان الدفع، وهي تصنع احترامًا للمهنة يرفع عدد الزوار، ويصنع بذلك دخلًا إضافيًا يعوّض بعض النقص في الموارد الإعلانية.
كلمة السر في أي جهد يُبذل لإنقاذ الصحف الورقية الآيلة، هو أن تستعيد الذي أضاعته منذ سنوات وهو المحتوى الخاص القابل للبيع.. قيمةٌ مضاعفة، أكثر جاذبية (كمًّا ونوعًا)، لها كلفتها المؤكدة في التصنيع والابتكار والإنتاج، لكنها في صبيحة اليوم التالي تكون قادرة على تسويق هذا المحتوى التنافسي بأثمان لها الكثيرون المستعدون لدفعها ما دامت رشيدة.
الصحافة الورقية العربية صناعة – قطاع خاص- مؤهلة لأن تستعيد توصيفها كسلطة ذات أظافر، لكن بشرط اعتماد قوانين معروفة للصناعة، وأولها احترام الذات.