“تاء مربوطة” وراء الجدران
بقلم: مريم كردي مغربل

النشرة الدولية –

وراء الجدران تتوارى قصص مكبلة تنتظر الإفراج عنها.

من سيبوح بها أو يكتب عنها؟ وأي عدالة إجتماعية ستصغي إليها من خلف القضبان؟ فوراء الجدران صرخات مكتومة لم يصل صداها إلى أحد، صامدة رغم كل الصدمات والكدمات النفسية والجسدية. هي قصص صفعات من الواقع تجسد مسيرة المرأة المقيدة كالتاء المربوطة. فكأنها كائن غير بشري لا بدَّ من زجها في قفص أو بين جدران عالية يصعب تسلقها. فحرمانها من حقوقها والإقتصاص من أغصانها كي لا تزداد في التمدد ولربما التمرد.

إن مظلومية المرأة لها تاريخ طويل متأصل منذ حضارات بعيدة كالحضارة الإغريقية والرومانية وغيرهما من شعوب تركوا بصمات عن همجيتهم. ورغم التطور الحضاري، إلا أن المجتمعات بقيت فيما بينها تتوارث أعرافاً وتقاليداً قديمة بالية ومترسخة في الفكر والتاريخ الإنساني، فيترددون في تغييرها أو حتى تعديلها.

كالعقود مازالت تلتف القيود حول عنق المرأة، وتكاد تخنقها كي لا تخرج عن الصورة المؤطرة لها. فهذا الموروث الثقافي المتجذر أعطى أغلبية العقل الذكوري (دون التعميم) مساحة واسعة لقمع حريتها. مما سمح له بالتمادي في تعنيفها تحت مظلة “شرف العائلة”. وبتساهل من قانون العقوبات اللبناني، كغيره من القوانين العربية، مع مرتكبي العنف الأسري، وبخلو القانون أيضاً من نصوص تحمي المرأة من العنف، تعثرت الأحكام العادلة وأضلت طريقها عن إنصاف وحماية المرأة المعنفة.

كحقوقية حملت في داخلي دوماً رسالة إحقاق الحق وجذبتني القضايا الإنسانية عامة وقضايا المرأة خاصة. فوجدت نفسي على مقربة وثيقة من سيدات وفتيات معنفات قليلاً ما تجرأنَ البوح بما تعرضن له من إنتهاكات تركت آثاراً عميقة في نفوسهن، ثم غصة في نفسي.

ولكن… وفي العمق الإنساني سؤال يطرح نفسه: ماذا تشعر المرأة المعنفة، والمرأة التي تُهدر حقوقها كل يوم ولا تحيا حياة كريمة ؟؟

مشاعر متنوعة كانت تصيبني بعد كل محادثة أو جلسة توعية أو إصغاء لبوح إمرأة معنفة. وبين كل غصة وغصة كنت أتساءل وفي مخيلتي مشهد لتاء مربوطة وراء الجدران: إلى متى تتنفس المرأة الهواء من فوهة زجاجة طويلة العنق ؟!

إلى أن يأتي يوم فيمتلئ ويفيض كأس المعاناة، وتُثقل الأحمال كاهلهن، فلا بدَّ من إفراغ الكأس وإنزال الأحمال بكسر حاجز الصمت والخوف والعيب في جلسة من الفضفضة الآمنة. فجلسات البوح مع المساندة النفسية ستمهدان الطريق لإستعادة الشعور بالأمان، ومن ثم ثقتهن بأنفسهن ما سيمكنهن من أخذ القرارات المناسبة.

كنت أصغي إليهن بأذني وعقلي وقلبي، ونبدأ سوياً كالجنود رحلة العودة من الحرب وتبعاتها. لا أخفي أني تألمت في داخلي سراً بعد كل جلسةٍ أو زيارةٍ. فحملتُ صدى الكلمات والكدمات إلى وسادتي، وعلى الأخص مشاعرهن إلى كتاباتي.

أستعيد مع قلمي مشاعر تاء مربوطة: “أشعر أني معوقة معتقلة، فلا أخطو خارج المنزل دون حراسة مشددة. فقد يهاجمني أو يلتهمني حيوان بري أو حتى بشري غير أليف. هكذا وجدت نفسي دوماً مجردة من أبسط حقوقي ومجبرة أن أضع سقفاً سميكاً كي لا تتسرب الأحلام إلى فكري. أجلس في رقعة مظلمة منفية عن الخارج، فكما أخبرتني أمي أن القوانين لم تتشدد مع المتحرشين بعد. أتناول يومياً مع وجباتي يوميات مخاوف أمي، فقصة ليلى والذئب ليست قصة خرافية ومازالت تقلقني منذ صغري. إذا لن أتمكن من المشي وحدي في الشارع المجاور لبيتنا لأزور جدتي أو صديقتي. يبدو أن العالم مخيف في الخارج !!…..”

يرتعش قلمي وهو يدخل إلى بصمات أحزان تاء مربوطة في الستين من عمرها، فيعبر عما ألمحتْ إلى قوله: ” أشعر وكأنني بلغت الثمانين من عمري. فالتجاعيد التي ترسم كل يوم خطوطها على وجهي، وأراها في مرآتي تُغير في ملامحي بدأت أعتاد عليها. أما جروحي القديمة العميقة التي حفرت بيوتاً لها في قلبي وروحي، ولست أراها في المرآة كما أرى وجهي، إلا أني لم أعتاد عليها بعد. ورغم مرور سنوات طويلة، مازالت تؤلمني جداً “.

وبينما يوشك الحبر أن ينتهي، يختصر قلمي معاناة تاء مربوطة في مشهد من عقدة الذنب: “أحلم ببيت هانئ وهادئ، فلا ألطخ وسادات أولادي وأغرق أحلامهم بدموعي”.

أسفاً إن المعنفين لم يتمكنوا من ترويض نفوسهم، وقد خسروا بإيذائهم للمجتمع عامة وللمرأة خاصة الكثير من مخزونهم الإنساني، لذلك هم يستحقون أحكاماً مشددة. فالتردد في إجراء كل التعديلات المحقة وعدم تشريع نصوص رادعة لحماية المرأة المعنفة، سيؤخر حتماً العدالة الإجتماعية.

أختم بصرخة : أما آن الأوان لفك الرباط عن عنق التاء المربوطة وراء الجدران؟

زر الذهاب إلى الأعلى