نُسخة ثالثة من الحرب ذاتها
بقلم: مصطفى أبو لبدة
النشرة الدولية –
بأقلّ قدرِ من الجدل أو الاستعراض، دخلت منطقة شرق المتوسط (بلاد الشام والعراق) يوم الجمعة الماضية في نسخةٍ جديدة من الحرب الامريكية على الارهاب، هي الثالثة خلال العقدين الماضيين. جميعها أخذت شكل ائتلافات اقليمية ودولية، تبادر بها وتقودها واشنطن.
الجولة الأولى هي التي كان الرئيس جورج بوش الإبن أطلقها عام 2001، مباشرة بعد عملية 11 سبتمبر، وأعطاها إسم الحرب العالمية على الإرهاب. ترجماتها العسكرية أخذت شكلها في غزو العراق 2003 مسبوقاً بافغانستان.
الجولة الثانية من هذه الحرب أطلقها الرئيس باراك اوباما عام 2010 على تنظيم القاعدة والإرهابيين المرتبطين به في سوريا والعراق. أيامها، وفي استراتيجية جديدة للأمن القومي قررت إدارته التخلّي عن مصطلح “الحرب العالمية على الإرهاب”، و قصرت المواجهة على التطرف الديني السنّي المتمثل بداعش في سوريا والعراق.
واليوم في عهد الرئيس جو بايدن، تتجدد الحرب الامريكية على الإرهاب في الشرق الاوسط ، لكن في تجلّياته غير العسكرية التي أخذت شكل تصنيع وتهريب المخدرات، انطلاقا من النظام السوري والجهات المرتبطة به.
يوم الجمعة الماضية جرى إقرار ميزانية حرب بايدن، وبدأ تجهيز أدواتها، بحيث تكون مختلفة عن سابقاتها حربي بوش وأوباما وربما أطول. هكذا جرى التمهيد لها اعلاميا وتبريرها تشريعيا بدعوى تجفيف الموارد غير المشروعة للنظام في سورية، مع كل ما يحمله ذلك من احتمالات فتح جبهات جديدة على رعاة دمشق في روسيا وايران، فضلا عن الميليشيات وشبكات التنفّذ السياسي والطائفي والاعلامي والعشائري التي تتوزّع المنطقة، في مواجهات طويلة تسمح بها حروب الجيل الخامس.
هي كما جرى الإعلان عنها وتوصيفها، مواجهة مشروعة في أهدافها، ولا يستطيع حتى حلفاء سوريا انتقاد غاياتها المعلنة. لكن اختلاط السياسي منها بالعسكري وبالاقتصادي والاجتماعي، في تشكيلة إقليمية وأممية واسعة، يترك المجال واسعاً للتكهن والكمائن، وللحسابات والأجندات المتفاوتة.
كما في الحربين الامريكيتين السابقتين بالشرق الاوسط ،السابقتين، على العراق ودولة داعش، فقد سبقت الحرب القادمة على النظام السوري حملةٌ إعلامية تبريرية كثيفة بمختلف اللغات، استغرقت الأشهر الستة الماضية وأفسحت في المجال لانتظار حربٍ في شرق المتوسط، يبدو أنها ستكون نوعيّة في أسلحتها وأدواتها وفي احتمالات التقاطع مع بؤر ومشاكل وتوترات جاهزة أساساً للتسخين.
قصة الحرب الأمريكية على المخدرات في سوريا بدأت إجرائياً، في يوليو / تموز عندما اقترحت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مشروع قانون وافق عليه المجلس في سبتمبر تحت اسم “قانون مكافحة اتّجار نظام الأسد بالمخدرات وتخزينها” وأخذ التسمية المختصرة كابتاغون CAPTAGON، من الأحرف الأولى للثماني كلمات .
بشكل سريع بدرجة استثنائية تشي بأن الموضوع استراتيجي من شغل الدولة العميقة ، مرّر الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، مشروع القرار الذي يوقعه الرئيس بايدن يوم الجمعة الماضية 23 ديسمبر، معزّزاً بميزانية اندرجت ضمن قانون موازنة الدفاع لعام 2023. مع طلب ب”وضع استراتيجية أمريكية لوقف إنتاج المخدرات والاتجار بها في مناطق سيطرة النظام السوري، وتفكيك الشبكات المرتبطة به”.
مشروع القرار لم يُسمّ الجهات والشبكات المرتبطة بمخدر الكابتاغون السوري ،وهي التي توسعت الحملات الاعلامية في عرض أنها تشمل ايران وحزب الله، وتوقفت قبل القول ان كل ذلك يتم بمعرفة روسيا الراعي الاكبر للنظام السوري.
إلا أنه نصّ على أن هذه الصناعة والتجارة للمخدرات “تشكّل تهديداً مباشراً عابراً للحدود” يتطلب استراتيجية أمريكية لتفكيكه. حدد المشاركين في هذه الاستراتيجية بأنهم وزارات الدفاع والخارجية والخزانة وإدارة مكافحة المخدرات ومعهم الاستخبارات الوطنية والوكالات الفيدرالية ذات الصلة، على أن تُقدّم هذه الاستراتيجية مكتوبة إلى لجان الكونغرس خلال ستة شهور، متضمنة كيفية تعطيل وتفكيك هذه الشبكات.
مشروع القانون الأمريكي أعطى للحرب القادمة في الشرق الاوسط طابعاً إقليمياً مفتوحاً على الدولي، وهو ينصُّ على طلب الدعم الدبلوماسي والاستخباري، ومساندة الدول الشريكة أو المتضررة من هذه المخدرات، من خلال التشاور معها أو مساعدة أجهزتها المعنية وتدريبها، إضافة الى تنظيم حملة إعلامية عامة.
في الاشارات المتزامنة تفاصيل تظهر ان ترتيبات على الارض في الشرق أضحت جاهزة، وأن لبايدن شريك في هذه الحرب هو الرئيس الفرنسي. في كلمته التي ألقاها الأسبوع الماضي في “مؤتمر بغداد للتعاون الشراكة” بالبحر الميت، بحضور 12 دولة بينها ايران، كان ايمانويل ماكرون، مباشرا في قوله أن “منطقة الشرق الأوسط تمتلك كل المقومات لتكون في مقدمة الأجندة الدولية، لكنها تعاني من انقسامات وتدخلات تؤثر على استقرارها.”
في الجديد النوعي للحرب الأمريكية الثالثة على الإرهاب في الشرق الأوسط، متمثلا هذه المرة بالمخدرات، فإن مشاركة اسرائيل ستكون مطروحة للنقاش ،على الأقل من زاوية أنها تتشارك مع سوريا في الحدود، وبالتالي في كونها ضمن المستهدَفين في تجارة وترويج المخدرات القادمة من سوريا أومن شركائها في لبنان وإيران والعراق واليمن.
هي حرب أمريكية ثالثة في الشرق الاوسط خلال عقدين، ولها مبررات يصعب رفضها أو الجدل فيها. لكن حيثياتها مفتوحة على كل ما تسمح به المخيلة. خذ مثلا: إذ كان الطيران الحربي الاسرائيلي لا يتردد في قصف شتى المواقع داخل سوريا بذريعة رصدها وهي تحتوي واردات من إيران ذات طابع عسكري ،فما الذي سيمنع قصف مواقع إنتاج الكابتاغون في درعا أو القلمون أو حتى في البقاع اللبناني، ما دام أن مطارح الانتاج، كما جرى تعميمها، وكذلك خط سير شحنات التصدير البري وصولاً الى ميناء اللاذقية، كلها معروفة، ويمكن أن تتغير، برا أو بحرا، ما دام أن عملية ضغط وتغليف حبوب الكبتاغون متاح بماكنات صينيه يُعلن عنها في النت بسعر 2500 دولار ويمكن تركيبها على شاحنة صغيرة متحركة؟
الحرب القادمة على المخدرات الخارجة من سورية يمكن ان تتحول في اية لحظة الى عسكرية بما في ذلك بحرا عبر شواطئ المتوسط او بحرالعرب والاحمر بشبهة كونها قادمة من ايران. ثم ان جزءا من الحملة العسكرية التركية القادمة على شمال سوريا يتضمن دواعي تنظيف الشريط الحدودي من المخدرات.
أكثر من ذلك: إذا كانت الولايات المتحدة في حربها الطويلة على شبكات المخدرات المكسيكية أجازت وحللت قتل رؤوس و كبار مسؤولي تلك التروستات، فما الذي سيمنع بنيامين نتنياهو من توسيع دائرة الاغتيال الخارجي، وهو الذي كان طال ذوي صلة بالنووي الايراني، لتشمل بعد الآن، المشبوهين بإدارة شبكات الكابتاغون، بمن فيهم العسكريين الذين تطالهم أصابع الاتهام، ما دام ان الموضوع يندرج ضمن تحالف دولي تقوده وتحميه امريكا؟
هي حرب أممية تنطلق من الشرق الاوسط باعتيباره سُرّة العالم، وفيه كل العناصر التي يمكن تركيبها لتصنيع ال “الكابتاغون السياسي والعسكري” اللازم لإدامة تدوير ماكنات منظومة العولمة الدولية.
في خلفيات الحرب القادمة على المخدرات، فإن الكابتاغون الذي أعطى اسمه لهذه الحرب، اكتُشف في ألمانيا عام 1961. كان في الأساس علاجاً للاكتئاب ولأمراض مرتبطة بفقدان الحس. لكن بعد عشرين سنة تأكدوا أن فيه خصائص تسبب الإدمان، فجرى حظره وتجريمه دوليا، وتحول الى كوكايين الفقراء. سعر الحبة منه في بلد المنشأ دولار واحد، لكنها في المجتمعات ذات الملاءة المالية تصل 15 دولارا. حجم مرابحا خرافي ويغري كل صاحب شهيّة على المشاركة في اللعبة الخطرة .
كان مقاتلو داعش، الذين ابتدعوا وحللوا جهاد المناكحة ، يستخدمون هذه الحبوب المنشطة لكل شئء، لتعطيهم دفعة مصطنعة من الطاقة القتالية بأقل قدرمن القلق والاحساس بالإثم. ومن تصديره، ومعه النفط المسروق،كانوا يمولون تشكيلاتهم وعملياتهم. حتى اذا انهزمت دولتهم و توزّعوا، انتقلت إمارة المخدرات إلى تشكيلات سياسية وعسكرية وعشائرية وطائفية، ونشأت من حولها تجارة وموارد سهلة راجت سريعا وأصبحت مداخيلها (يقدرها البنك الدولي بحوالي 15 بليون دولار) ترسم خريطة أخرى ،موازية، للشرق الاوسط، رمادية وحشية فيها ارقام الثراء الأسود لا يدانيها الا ارقام المدمنين الذي تفيض بهم المصحات العلاجية.
هي في تشكيلتها حرب مشروعة على الفساد المؤسسي الذي يعرف الجميع انه منظومة اقليمية ودولية متكاملة. لكن الأمر في النهاية مناطٌ بطريقة تشغيلها. ففي هذا الاقليم رُزمٌ شائكة من الأورام السياسية والاجتماعية المستعصية، ومن القضايا المتفجرة العالقة، كفيلة بأن تجعل محاربة إرهاب المخدرات أوعر وأشرس مما تبدو للعيان. تنجيز هذه الحرب القريبة والخروج منها، لن يكون بالسهولة والمقبولية التي بدأت بها. وللادارات الامريكية المتعاقبة تاريخ طويل معزز بالشواهد في اطلاق وقيادة حروب خارجية تبدا ولا تنتهي.
التحالف الأمريكي في حرب العراق (2003) انفض بعد عدة سنوات، لكن تداعياته لم تبارح المنطقة حتى الآن. طريقة خروج بايدن منه في افغانستان كان فضيحة.
والتحالف الأمريكي في الحرب على داعش، وهو الذي تشكل عسكريا في أيلول عام 2014، انتهت مهمته، لكنه لم يبارح المنطقة… لا هو ولا داعش.
فما الذي سيجعل التحالف الدولي الذي جرى توثيقه والمباشرة به الأسبوع الماضي تحت هويّة الحرب على ارهاب الكابتاغون في بلاد الشام، مختلفا عن التحالفين اللذين سبقاه؟!
قبل خمسين سنة بالضبط، أطلق الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون استراتيجية لحرب مشروعة على المخدرات في أمريكا اللاتينية.. ما زالت حتى اليوم تدور في حلقة شبه مفرغة. قتلاها وصل عددهم بالالاف، وأسقطت في طريقها عدة أنظمة وقيادات وكارتيلات. عسى ان تكون حرب بايدن المماثلة في الشرق الأوسط أقصر عمراً وأقلّ كلفة.