“الكشافة” في طرابلس… تاريخ من الانضباط والعز
النشرة الدولية –
لبنان الكبير –
إسراء ديب
لم تنس المواطنة أماني م. (54 عاماً) ذكرياتها مع جمعية “كشافة الجراح” – مفوّضية الشمال، فبعد مرور أكثر من 30 عاماً على ابتعادها عن الأجواء الكشفية التي كانت قد اعتادت عليها منذ نعومة أظفارها كزهرة كشفية، ما زالت تُحيي هذه الذكريات في مخيّلتها كلّما مرّت بجانب مركز الجمعية الكائن في الزاهرية، أي في المبنى الذي شهد على مرحلة عريقة كان قد رصدها أبناء طرابلس حتّى في أحلك المواقف والأزمات التي شهدتها المدينة.
لا شكّ في أنّ الأزمات المالية الأخيرة أثرت مباشرة على وضع هذه الجمعية كما غيرها من الجمعيات الكشفية المعروفة في الفيحاء كـ “كشاف لبنان”، أو “كشاف المسلم” مثلاً، والتي كانت تُعطي للكشافة على اختلاف الفرق التي تعمل فيها، قيمة وقدراً كبيراً بسبب ما تُقدّمه من معلومات وتدريبات متنوّعة من جهة، كما تلقينها الكثير من الدروس الأخلاقية والتوعوية من جهة ثانية، وهي أمور بتنا نفتقدها في الآونة الأخيرة بوضوح، حتّى في المدارس التي كانت تُحافظ في الأعوام الماضية على الشقّ التربوي إلّا أنّها باتت ومنذ انتشار وباء كورونا واستفحال الأزمات الاقتصادية في البلاد فضلاً عن ضرب القطاع التربوي بنقص الأموال والاضرابات المستمرّة، تعجز اليوم عن لعب دورها الرئيس وهذا ما يزيد من صعوبة التعليم تارة، والتربية تارة أخرى.
ومع إطلاق مفوضية الشمال في جمعية “كشافة الجراح” فعاليات اليوبيل الماسي في مؤتمرها السنوي لذكرى مرور 75 عاماً على تأسيسها منذ أيّام، تُبدي أماني استغرابها من تراجع الهمّة الكشفية أخيراً على الرّغم من أهمّية استمرار هذه الفعاليات التي تُعطي لكلّ مناسبة قيمة ولكلّ حركة “بركة” وفق ما تقول لـ “لبنان الكبير”، مضيفة: “في السبعينيات، كنّا نسجّل في هذه الجمعية برسم رمزيّ وكنّا نشتري الثياب المخصّصة لها، وكنت أفرح كثيراً بكلّ فرقة مشاركة معنا بزيّها الخاصّ بها، على الرّغم من صغر مساحة هذا المركز الذي أتذكّر تماماً أنّه كان عبارة عن صالون كبير مع غرف داخلية، لكنّه يجمع آلاف الطلاب الذين أحبّوا النشاطات الموجودة فيه، خصوصاً الرحلات أو الفرقة الفنية التي كانت تتدرّب يومياً حتّى أنّها كانت مطلوبة من الجيش اللبناني الذي كان يطلب عادة هذه الفرق الكشفية المشاركة في بعض فعالياته وذلك نظراً الى خبرتها وتدريباتها المستمرّة على العزف وغيره….”.
وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، لم تعرف الكشافة في طرابلس عنصرية بل نبذتها كما رفضت الطائفية، بحيث تُؤكّد أماني أنّ جنسيات مختلفة كانت موجودة ضمن الفرق، حتّى طوائف ومذاهب مختلفة كانت تُشارك “ولم نشعر يوماً بوجود انقسام ولم نكن نتحدّث أساساً في هذه المواضيع على الرّغم من قساوة الحرب، لكن فيما بعد تراجعت نسبة الاختلاف الموجودة نظراً الى هروب عائلات مسيحية عديدة من طرابلس إلى مناطق، مدن أو قرى ثانية أبعد خوفاً وقلقاً من تداعيات الأزمة، أمّا المذاهب الاسلامية (غير السنية) فلم نكن نعلم بها لأنّ مواضيع كهذه لم تكن مطروحة أمامنا في ذلك الوقت”.
وإذْ تتميّز الكشافة بالمخيّمات التي تُدرّب فيها المشاركين على مواجهة الصعاب كما تحمّل المسؤوليات، تلفت أماني إلى أهمّية المسيرات “المئوية” التي كانت تجوب مختلف شوارع طرابلس، مع ضرورة ذكر الاحتفالات التي كانت إمّا وطنية أيّ رسمية، أو دينية كعيد المولد النبوي الشريف مثلاً، وهي مناسبات تجمع مئات الطلاب الصغار منهم والكبار، (أيّ بدءاً من مرحلة الزهرة كإناث، ثمّ قائدة أو مدرّبة)، لتتجوّل بتنظيم والتزام نفتقده اليوم بشدّة”.
وعن “كشافة الجراح”، يُؤكّد محمّد ع. (45 عاماً)، وهو كان أحد المشاركين فيها أنّها كانت تُعدّ الأولى على مستوى لبنان عموماً، وطرابلس خصوصاً، مع المستوى التنظيمي والانضباط الكبير أو الأناشيد التي لا تزال تتردّد على مسامعنا في كلّ لحظة نظراً الى تعلّقنا بها واعتيادنا عليها”. ويقول لـ “لبنان الكبير”: “كنّا نتدرّب زهاء الساعتين تقريباً بعد المدرسة، وكنت أركض حرفياً من منزلي بعد إيصال حقيبتي المدرسية، إلى الجمعية مسرعاً، كنّا ننظف، نزرع، نشارك في الرحلات، في التدريبات الموسيقية، الاسعافات الأوّلية وغيرها من التفاصيل، وعلى حسب ما أذكر كانت المشاركة في هذه النشاطات تحصل عبر طرق عدّة: إمّا عبر التسجيل فيها بصورة رويتنية وفردية، أو المشاركة فيها من خلال المدارس التي كانت تأخذ أسماء من يُريد التسجيل، أيّ كان للمدارس دور كبير في هذا المجال”.
ويتابع: “حين أرى مسيرات للكشافة اليوم أشعر بحنين وشغف إلى هذه المرحلة، لكن لا نخفي أنّنا نشعر في الوقت عينه بغصّة وبعتب على تراجع هذه النشاطات وعدم دعم الأهالي لها كما في السابق، وقد تكون التكنولوجيا أيضاً سبباً مباشراً في هذا التراجع الذي نرفضه ونتمنّى تشجيع كلّ ما من شأنه رفع مستوى الأخلاق والهمم في البلاد”