التحدي الثاني لواشنطن في 2023: إيران
بقلم: وليد فارس
ستواجه إدارة بايدن سؤالاً حول سياستها تجاه طهران: هل أنتم مع النظام أم الانتفاضة؟
النشرة الدولية –
كما كتبنا سابقاً ومراراً فملف إيران هو الثاني بعد أوكرانيا، الذي سيتحدى سياسة الولايات المتحدة الأميركية بكل اتجاهاتها. فمن ناحية انزلقت إدارة الرئيس جو بايدن منذ قدومها إلى البيت الأبيض، إلى سياسة العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، فوجدت نفسها تواجه مصاعب على محورين: الأول هو تصرف طهران وتأخرها ووضعها شروطاً إضافية ومعظمها تعجيزية، إضافة إلى تصرفاتها في المنطقة، لا سيما ضد حلفاء واشنطن وشركائها، عرباً كانوا أم غير عرب.
هذا التحدي الأول حاولت إدارة بايدن أن تذللـه، فذهب الرئيس إلى جدة للقاء قيادات التحالف العربي وعلى رأسهم قيادة السعودية، لإقناعهم بأن الإدارة ستلتزم “بمعالجة همومهم الأمنية حيال طهران وتعزيز قدراتهم الدفاعية الفردية”.
إلا أن اللوبي الإيراني في أميركا ضغط بشكل مضاد ضد هذه الوعود وعكّر صفوها عبر شن هجمات إعلامية ضد أعضاء التحالف، مطالباً بإجراءات للحد من قدراته، لا سيما ضد الرياض، مما صعّب عودة الثقة إلى العلاقات بين عرب التحالف والإدارة.
وبات وكأن عدم حسم واشنطن وضعها إزاء التصرفات الإيرانية، قد فتح الباب أمام اللوبي الإيراني لتمييع عودة الحفاوة الكاملة بين الإدارة وشركائها العرب. والحالة نفسها انطوت على علاقات الإدارة مع إسرائيل، وستزداد الفوارق مع تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة برئاسة بنيامين نتنياهو الرافضة للاتفاق النووي.
وقلب المشكلة لا يزال هو: كتلة ضغط سياسية اقتصادية داخل الإدارة وخارجها، تسعى إلى إجبار الرئيس بايدن أن يوقع مع طهران بشروطها، على حساب المصلحة القومية الأميركية وذلك بأي ثمن. لذا فإدارة بايدن التي لا تزال مرتبطة بأجندة الرئيس الأسبق باراك أوباما وفريق عمله تجاه إيران، ستواجه مشكلة ملف “لوبي الاتفاق” خلال 2023 أيضاً. والسؤال الكبير يبقى: كيف تتحرر الإدارة من هذا اللوبي، أو إنها غير قادرة على فك الارتباط أصلاً؟
وملف إيران هو صعب أيضاً في محوره الثاني، وهو انفجار تظاهرات مهسا أميني في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، وتوسعها وتحولها تدريجاً إلى ثورة، وقد تطورت إلى حركة عابرة للمجموعات الإثنية. التحدي ينجم عن عدم إسراع إدارة الرئيس بايدن لدعم الثورة بسبب التزامات إدارة الرئيس الأسبق أوباما بدعم اتفاق أميركي – إيراني منذ 2009.
فلم تقدم الإدارة دعماً طبيعياً وكاملاً لثورة الشعب الإيراني، وفي مقدمه النساء والفتيات والمراهقون والأقليات، بشكل عارم كما فعلت إدارة أوباما خلال “الربيع العربي” بين 2011 و2013. وبسبب هذا التردد فقد البيت الأبيض “السيطرة” على هذا الملف.
ورغم تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن وعدد من حلفاء الإدارة في القطاع الخاص، وصولاً إلى أجزاء من الصحافة وهوليوود وبعض الأكاديميين، أنهم ملتزمون بالدفاع عن حقوق المرأة والمواطن الإيراني، إلا أن المعارضة الإيرانية اكتشفت مع الوقت أن هناك حدوداً غير مرئية قد وضعتها هذه الإدارة ذاتياً، بسبب عدم قدرتها على الخروج علناً في موقف واضح وجلي لدعم هذه الانتفاضة كما فعلت إدارة أوباما – بايدن عام 2011 حيال مصر وليبيا وتونس وغيرها من الدول. والسبب هو الالتزام بإدارة أوباما والاتفاق النووي مع هذا النظام. فهي تنتقده على “تصرفاته” من ناحية، لكنها تستمر في مفاوضات تحت الطاولة، وتسعى إلى تمويله عبر أطراف ثالثة، من ناحية ثانية. هذا التحدي الثوروي، الذي انطلق في الخريف الماضي سيتوسع ليصل إلى مرتبة عالية.
المشكلة السياسية والدبلوماسية لهذه الإدارة مع تغير الأكثرية في الكونغرس، تكمن في أن عدداً كبيراً من أعضاء الكونغرس سيسألون إدارة بايدن حول سياسة واشنطن حيال إيران، وسيسأل مسؤولون كبار في هذه الإدارة: هل أنتم مع النظام أم أنتم مع الانتفاضة؟
وبالطبع لن يتمكن البيت الأبيض أن يجيب عن هذا السؤال بوضوح إلا بعد أن يتخذ القرار النهائي والحاسم في ما يتعلق بالاتفاق النووي. فالتحدي الإيراني ينجم عن عدم قدرة البيت الأبيض في الأشهر المقبلة أن يحسم إلا إذا حصل ما لم يكن في الحسبان من أن تخرج الإدارة بأجندة سياسية واضحة حيال هذه الثورة، فإما أن تدعمها بالتالي تتخلى عن الاتفاق، أو ألا تتخلى عن هذا الاتفاق بالتالي تحد من قدرتها ونيتها دعم هذه الانتفاضة.
وما قد يعقد الموقف الأميركي من الملف الإيراني أمور عدة: الأول هو توسع هذه الانتفاضة إلى مواجهة شاملة مع النظام، بحيث تشهد بعض المناطق أحداثاً تصل إلى حد المقاومة شبه العسكرية، بخاصة إذا استمرت مؤسسات طهران الحاكمة بتنفيذ أحكام الإعدام ضد شباب الاحتجاجات.
ومحللو الاستخبارات الأميركية يعرفون تماماً أن استمرار النظام في إعدام وقتل وتعذيب المشاركين في التظاهرات، إنما هو السبب الأهم في توسيع رقعة هذه الثورة وحشد مواطنين آخرين للالتحاق بالانتفاضة. فمن صلب تكوين المجتمعات في العالم أن القمع الدموي يولد الثورات، وقد أسقط أنظمة في الماضي بغض النظر عن المسافة الزمنية.
إذاً هذا الملف ولأنه لم يحسم في أول أشهر للأزمة، فهو مرشح ليستمر لأشهر في العام الجديد. ستحاول الإدارة من دون شك أن تتوصل عبر مفاوضاتها إلى حلول نصفية أو جزئية، كالطلب من الحكم في إيران بأن يفتح أبوابه للمعارضة “للمشاركة في الحكم”، كالمبادرات مع نظام الأسد في سوريا، أو احتمال خروج مبادرة “إقامة حكومة وحدة وطنية” أو “طاولة حوار” على نمط تحرك “حزب الله” في لبنان، إذ يقبل بالمشاركة مع أطراف أخرى بالشكل. لكن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه في إيران، فالمعارضة تحوّلت إلى مقاومة والأوضاع خرجت عن السيطرة و”الإصلاحيون” غير مقبولين لدى الثوار.
التحديات إن في أوكرانيا أو في إيران مترابطة بشكل وثيق. فإذا لم لم تتمكن إدارة بايدن من الوصول إلى حل ما إما عسكري أو سياسي للحرب الأوكرانية، وهي مستمرة في الأسابيع القليلة المقبلة، فإن تجديد المواجهة بين روسيا وأوكرانيا ودعم الحلف الأطلسي، سيقود إلى تشدد استراتيجي لدى القيادة الروسية ومن ورائها القيادة الصينية، مما سيكون له تأثير كبير في القيادة الإيرانية. فهذه الأخيرة ستشعر بأن لديها معسكراً كاملاً يدعمها من الخلف، ويكملها استراتيجياً لكي تواجه أي احتمال دعم أميركي للثورة في إيران.
ومن ناحية أخرى، فإن استمرار الثورة في إيران وتعميمها في كامل المناطق، يمكن أن يحولاها إلى قوة تهدد استقرار إيران وأمنها الاستراتيجي، مما يدفع النظام للاقتراب أكثر من روسيا والصين. وقد رأينا كيف أن طهران قد أرسلت عشرات، إن لم يكن مئات من الدرونات التي تصنعها لروسيا لاستعمالها في الحرب على أوكرانيا.
إذا توسعت الثورة في إيران سيزيد النظام تدخله إلى جانب روسيا في أوكرانيا. وسيزيد طلباته باستيراد التكنولوجيا العسكرية من الصين وربما أيضاً من كوريا الشمالية. وهذا سيقلب الأمور على عقبها بالنسبة إلى إدارة بايدن. فهي كما كتبنا في البداية، تريد في نهاية المطاف حلاً دبلوماسياً مع روسيا. وهي لا تسعى إلى مواجهة مع الصين في المرحله الحالية رغم الخطاب الدبلوماسي المتشدد من جهة بايدن. الترابط بين ملف إيران وأوكرانيا سيكون التحدي الأكبر أمام واشنطن في السنة الآتية. وضف إلى هذا التعقيد وجود معارضة أقوى وأشرس ضد الإدارة في مجلس النواب لمدة سنتين.
من هنا، أمام إدارة بايدن أن تصل إلى نقطة الخيارات الكبرى في الأشهر الآتية، لأنه لن يكون لديها إلا سنة واحدة، وبإمكانها أن تغير في سياستها الخارجية قبل بداية عام 2024، لأن العام الأخير من عهده الرئاسي سيكون غارقاً بالمواجهة الانتخابية وبالتطورات داخل الحزبين، فلن يكون هناك مجال كبير للتفكير والتغيير في ما يتعلق بالسياسة الخارجية.