لارا مروّة تحقّق في اغتيال المفكّر حسين مروّة في عرضها الفنّي

النشرة الدولية –

بوسطجي – هالة نهرا –

بعدما نزف الزمان والمكان طويلاً، وعُمد إلى تسييل قالب الحقيقة في ثنايا المشهد من أجل دفعها على الفور باحترافٍ ظلاميّ إلى التبخّر في الإسوداد، اتخذت لارا مروّة الخشبة مسرحاً وجودياً لها لينتصر سؤال الإنسان عن الحرّية والعقل والتقدّم والعدالة والكُنه والحقّ والتاريخ، في عرضٍ فنيّ يشكّل تحدّياً جريئاً للذاكرة اللبنانية المثقوبة والمغبَّشة وتلك التي تُغيَّب عمداً في بلدنا، لا سيما على المستويَين السياسي والقضائي. هكذا يُسهم الفن رؤيويّاً في مهمّة البحث عن الحقيقة المحجوبة، مجترِحاً في الوقت عينه حقائق أخرى مرجَّحة، وحاضّاً على مقاومة التعفّن والظلم والإجرام والفوضى ومحاولات تكميم الأفواه، واغتيال أصوات العقل والفكر الحرّ، بالمنطق الآثم الاستقوائيّ الرجعيّ الماضويّ الجبان الغادر الوحشيّ المرفوض والمُدان إلى أقصى حدٍّ. هكذا تتجذر الشهقة في الصدى والمدى، وتهجر شرانق الحقيقة صمتها المتلوّي، باتجاه ضوء السؤال الكبير الذي سينفتح على مصراعَيه بعد الآن، باباً للحقيقة أو عتبةً أو نوافذ وسراديب لها. هكذا ينتسب الفن إلى ندبة الهواء والصهيل، وإلى إشاراتِ فجرٍ لُوِّح بمحاولاتِ محو أثره فجدّدَ عهد وعده الآتي علامةً تتبدّى في استحالة القضاء على الفكر في تنوّعه ومروحة ألوانه لأنّ الفكر مجنَّحٌ ويعبر الكرة الأرضية برمّتها، وفي استحالة القضاء على

الصيرورة مهما عُمد إلى تأخيرها عبر استراتيجياتٍ معوِّقة مفتعلة.

وإذا كان التاريخ مسرحاً لجريمةٍ كهذه تكرّرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فإن العرض الفنيّ ههنا يستحضر التاريخ الذي لن يُطمَس مشرِّعاً الباب العقلانيّ لمساءلته ونقده بعمق، حتى لا يُكرّر – بعد المآسي- على شكلِ مهازل، مفارقاته الرعناء وأهواله وفظائعه الهوجاء التي ستبتلع جميعهم (بمَن فيهم المرتكِب) إذا لم يتّعظ هو وكل من يشبهه – ولو من موقع النقيض- في امتشاق المنطق “الميليشياوي” الطائفي التصفوي الإلغائي الهدّام المقيت المرفوض، وإذا لم يستفد من العبرة بعد لعبةٍ قذرة سترتدّ عليه وعلى الجميع ولبنان. التراجيديا بعينها هي هذا التاريخ الممسوس الدامي، والدراما هي هذا الحدث الدراميّ الحقيقيّ الواقعيّ المفجع الذي أرادت لارا مروّة، حفيدة الشهيد المفكّر حسين مروّة (اغتيل عام 1987)، أن تضيء عليه في عرضها في القرن الحادي والعشرين لتلَمُّس دائرة الحقيقة وإنقاذها من الكواتم وحُفَر النسيان والتناسي وفلش الموضوع في عرضٍ فنيٍّ إبداعيّ بعنوان “إذا أردتَ السلام”، وقد بدأ مساء الجمعة في “زقاق” (كورنيش النهر، لبنان).

حسين مروّة المفكّر الماركسيّ الشيوعي المسالم الأعزل الذي كان سلاحُه القلم الحرّ، كان “ذنبه” أنه حلّقَ في عالم التجريد الذهنيّ وفضاء الفكر في زمنٍ كان ظلاميّوه يرتعبون من صدى العقل وتأثيره فحاولوا إرعاب العقول عبر قتل بعضها، ظنّاً منهم (بوصفهم جهلاء متخلّفين) أنّ الفكر قد يموت.

أنْ يتّفقَ المرءُ مع أفكار حسين مروة أو يتقاطع معها أو مع بعضها أو أنْ يختلفَ معه وعنه جزئياً أو كلّياً فيُعارضه، تلك مسألةٌ طبيعيةٌ منوطة بحرّيةِ الفكر والفكرُ عموماً يُناقَش أو يقارَع بالفكر أو يقابَل بالفكر سلمياً وحضارياً. أمّا قتل المفكّر أو المثقف الأعزل بسبب قناعاته وآرائه وأفكاره وتحليلاته واستنتاجاته ومواقفه، فتلك جريمةٌ وحشية معادية لا للفكر والثقافة والمفكّرين والمثقفين فحسب، بل معادية أيضاً وأساساً للعقل البشريّ والحرّية والمجتمعات والأوطان والإنسانية والتقدّم والحضارة.

عرض لارا مروّة الفنيّ يستمرّ في “زقاق” اليوم وغداً، مع مشاركة وإشراف فني لرانيا مروّة، ووليد دكروب وكريم دكروب، علماً بأنّ المُسهمين فيه هم: ألكسندر فنسان (مرافقة تقنية وتصميم الديكور)، ومحمد العماري (تقنية)، ومحمد العوجي (مساعدة تقنية)، وعلي بيضون وشادي نصرالله (فيديو و مونتاج)، وعلي بيضون (تأليف موسيقي)، وآية حسن (تصوير).

المشروع هو بدعمٍ من “آفاق” (الصندوق العربي للثقافة والفنون)، “ومسرح

زقاق” ضمن برنامج الإقامة الفنية، و”بيت الفنّان حمّانا”، و”شمس”، و”لا بازوكا”.

يترجّح العرض الفنّي للارا مروّة بين الواقع (بنسبة طاغية) والخيال (بنسبة ضئيلة) وعبْره تنقّب لارا عن العدالة الانتقالية. “إذا أردتَ السلام” عنوان العرض الذي تسترشد به فإذا أردتَ السلام فعليك أن تحفر آبار الحقيقة وتُواجه بإدراكٍ وجسارة وتبصُّرٍ وحكمة. العمل حميمٌ وعميقٌ، ينكأ جرح الذاكرة ليوضح برقُها الحقيقةَ ولكي يلهِم بالاستنباط كيفيات ولوج الحلّ لبناء مستقبلٍ مغايرٍ سَويّ على أسسٍ سليمة. العمل الفنيّ مشغولٌ بتأنٍّ وعناية وقد استغرق وقتاً وارتكز على جهود عددٍ من أفراد العائلة، بالإضافة إلى فنانيها المبدعين المذكورين إنْ في رؤاهم المتشابكة المتراصّة أو في لمساتهم وأثرهم وحضورهم القيّم (وليد دكروب، وكريم دكروب، ورانيا مروّة). تجلّت لارا في الأداء الرهيف المتقن الذي شفَّ عن تمرُّسها في التعبير الجسماني في عرضٍ متعدّد الوسائط Pluridisciplinaire، وهي الحائزة شهادة دكتوراه في فرنسا (جامعة باريس 1 – بانتيون سوربون) في الإستِطيقات (الجماليات) ومزاولات/ ممارسات الفنون، وعرض “إذا أردتَ السلام” مثّل القسم العمليّ للأطروحة التي نالت على أساسها شهادتها في شباط 2022 تحت عنوان: “الجسد كوثيقة، تحقيقٌ في حدثٍ من الحرب الأهلية”.

مناخ الحوار التفاعليّ بعد العرض بين الفنانين والجمهور النخبوي كان آسراً وشيّقاً ومفيداً في انفتاحه على الرحابة والآخَر، لا سيما في ظلّ غياب إن لم نقل تغييب وتطيير الحوار الوطني الحقيقي في لبنان بين أبناء الشعب الواحد. هكذا يُبيّن العرض كيفية إسهام الفن، على طريقته المؤسلَبة، في إنارة درب التغيير فلا تغيير من دون تنوير وحوارٍ شفيفٍ وصريح، وقراءة التاريخ والواقع بعينٍ نقدية. إنها خطوة أولى في رحلة الألف ميل ويستلزم الأمر حفراً متواصلاً تراكمياً في الوعي الجمعيّ المخرَّب (لمعالجته) في لبنان الذي حوّلوه إلى مزارع طائفية ومافياوية حتى لا يتحقّق الوطن. هذا العرض الإبداعي ليس مرثاةً فنية ترتصف عددياً على رصيف مراثي الشهداء، بل يكتنف في غوره جسوراً فنية إلى لغة العبور، على أمل أن نشهد نحن أو الأجيال الآتية غداً أو بعد غدٍ ميلاد صباح الوطن. هذا العرض الفنّي أكمام وميض شقائق النعمان بعد المأساة، وزهرة الحوافّ والطريق ترجع دائماً على صهوة الموج، وصرخة المحيطات، تشقّ في الخرائب الحالكة كوّةً للضوء.|

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى