جنون الدولار.. وجنون السياسة
بقلم: هتاف دهام

النشرة الدولية –

لبنان 24 –

يبدو أن اضراب المصارف المفتوح مستمر إلى حين حصولها على الضمانات المطلوبة، فهي ترفض الإجراءات القضائية بحق مجالس إدارات عدد من البنوك، وطلب رفع السرية المصرفية عن حساباتها و تضغط لإقرار قانون “الكابيتال كونترول، في حين أن النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون ستنظر اليوم في شكواها ضد المصارف من اجل ابلاغ المصارف غير المتجاوبة مع طلبها عن طريق اللصق، علما ان المصارف تعتبر نفسها مستهدفة اقتناعا منها أن هناك من يعمل على تخريب القطاع المصرفي لإنهاء دوره.

في هذا الوقت تكثر التسريبات عن ان إدارة الخزانة الاميركية على مسافة خطوة واحدة من فرض عقوبات على حاكم البنك المركزي رياض سلامة لعلاقته بحزب الله، علما أن لا صحة لهذه الأخبار التي تم نفيها من قبل مسؤولين أميركيين.

ويبدو أننا قد دخلنا في مرحلة متقدمة من اشتداد الصراع السياسيّ في لبنان، ويتجلّى ذلك، بحسب ما يقول مدير “مركز إشراق للدراسات”، الباحث في الشأن الاقتصادي والسياسي الدكتور ايمن عمر لـ”لبنان24″، في ما تم تسريبه من فرض عقوبات أميركية قريبة على سلامة، وذلك من أجل إحداث بلبلة عارمة في سوق النقد وتدهور متزايد في سعر صرف الليرة في مقابل الدولار، وما لذلك من تداعيات اجتماعية كارثية خطيرة، وفتح الباب على مصراعيه أمام فوضى اجتماعية تسرّع بالانهيار نحو الارتطام الكبير.

ولا شك أن الأزمة في لبنان بدأت بفعل ضغوطات اقتصادية خارجية وعمليات خنق للاقتصاد لأهداف سياسية مرتبطة بصراعات المنطقة، عبر الأداة الأكثر نجاعة وهو الدولار، يُضاف إليها بنية اجتماعية مترهّلة ونظام سياسي مهترئ بفعل التناقضات المذهبية والطائفية.

وفي ظل تفكّك تدريجي لكل مؤسسات الدولة، وغياب السلطات الرقابية والحسابية، مع فراغ في رأس السلطة، وصراعات داخل المجلس النيابي، وحكومة تصريف أعمال، وآخرها صراعات حادّة داخل السلطة القضائية، تصبح المناخات، بحسب الباحث الاقتصادي نفسه، مهيئة لتسارع الانهيار بوتيرة أعلى من خلال فوضى عارمة عنوانها الأزمات المعيشية بفعل الدولار، وهذا ما يحدث الآن من تفلت هستيري للدولار من عقاله، بحيث ارتفع منذ بداية العام من حوالي 43,000 ليرة للدولار إلى 80,000 أي حوالى الضعف بأكثر زيادة متسارعة له منذ بداية الانهيار وحتى اليوم، ما يصطلح عليه القول اليوم جنون الدولار المرتبط بجنون السياسة

إن أخطر ما في الانهيار هو تفكك القطاع المصرفي وانهياره لأنه القلب النابض لكل مقوّمات الاقتصاد والمعيشة، يقول عمر، ففي عزّ الحرب الأهلية انقسم الجيش والمؤسسات الأمنية والعسكرية، في المقابل حافظ القطاع المصرفي على تماسكه والقيام بمهامه الطبيعية وإن بظروف غير اعتيادية، وهذا الامر كان عنصراً أساسيًا في إعادة الإعمار وتفعيل دورة الاقتصاد والحياة من جديد عقب انتهاء الحرب الأهلية.

ومن الممكن القول عن مصرف لبنان، بحسب عمر، أنه أُسقط بين يديه بحيث لم يعد يمتلك أيّ أداة فعّالة للجم الانهيار، حاول عبر منصّة صيرفة ولكنه فشل بالرغم من ضخّه عبرها أكثر من 13 مليار دولار، بل انحرف دور مصرف لبنان كمصرف المصارف ومحافظ على سلامة النقد الوطني إلى خصم للمصارف وتاجر للدولار بعد أن نضبت بين يديه مصادر الحصول على دولارات جديدة.

لا شك أن لبنان يتلقّى سنويّا 6.8 مليار دولار تحويلات من الخارج إضافة إلى أكثر من ملياريّ دولار تحويلات إلى المنظمات الفلسطينية والأونروا وبعض الأحزاب اللبنانية، ولكنها لا تدخل ضمن القنوات الطبيعية من خلال القطاع المصرفي لأن الثقة في المصارف فقدت نهائيًا بعد فقدان الناس لودائعها، يقول رئيس مركز استشراف للدراسات، وبالتالي لا يتم ضخّها في الدورة الاقتصادية وزيادة الناتج المحلي، وكذلك لا تساهم في زيادة الودائع المصرفية والاحتياط الأجنبي في مصرف لبنان مما يسبّب خللًا في العرض النقدي من الدولارات.

في المقابل هناك طلب يوميّ على الدولار لأغراض الاستيراد، بقيمة أكثر من 53 مليون دولار يوميًّا إذ تبلغ فاتورة الاستيراد السنويّة 19 مليار دولار أي بمعدل شهري وسطيّ مليار و590 مليون دولار، هذا غير الدولارات المطلوبة لتحويلها إلى سوريا والعراق والتي لا أرقام محددة في تقديرها.

إن إضراب القطاع المصرفيّ ساهم ، بحسب عمر، في الحدّ من فعّالية منصّة صيرفة في توفير جزء من الدولارات اليوميّة المطلوبة، فالدولارات التي تم ضخّها عبر المنصّة منذ بدء الإضراب تراوحت بين 8 و12 مليون دولار في اليوم وهي لا تفِ نهائيًا حاجات السوق اليوميّة. وإن إلقاء القبض على بعض الصرافين الذين هم أحد أهم مصادر تأمين الدولارات خلال الأزمة، ساهم في تجفيف بعض مصادر توفير الدولارات في السوق. ومع نضوب مصادر رفد القطاع المصرفي بدولارات جديدة، وفي ظل انخفاض الاحتياط الإلزامي من الدولارات في مصرف لبنان، وغياب أي سلطة قانونية وهيبة قضائية، تصبح البيئة وكل الظروف، كما يقول الباحث الاقتصادي نفسه، مهيأة للتحكم في سعر الصرف خارج عباءة السلطات النقدية، وتاليًا يمكن لأيّ جهة سواء من المضاربين أو من يمتلك قدرات إعلامية او فعّاليات تأثيرية معينة من التلاعب بسعر الصرف والتحكّم بمساره إلى المدى الذي يريد، يقول عمر.

وعليه، يمكن القول إن أيّ حلّ ومعالجة يبدأ من السياسة، ومهما تمّ وضع الخطط واقتراح الحلول فهي ستبقى حبرًا على ورق إذا لم يحدث التوافق السياسي وتوفرت الإرادة لدى جميع القوى السياسية من دون استثناء والتي تنعكس في انتخاب رئيس جديد للجمهورية في أقرب وقت ممكن، وعودة الانتظام إلى جميع مؤسسات الدولة وفي مقدّمها السلطات القضائية والرقابية.

زر الذهاب إلى الأعلى