سرجون كرم …. ياخذ من الله الالوهة ومن بيروت الغربة
النشرة الدولية –
الخبر – ريتا شهوان –
عددهم يسير الشعراء الذين يلتمسون ابعاد التفاوت الاجتماعي وصورة الطفولة المهمشة في شعرهم. سرجون كرم ليس اكثر من انسان حساس تؤلمه الطفولة المعذبة والجريمة والدماء المنسابة في ديوانه “سمكري الهواء؟/ العليم في كل شئ”. فلجأ الى الله منذ العنوان، في كتابه الذي يتعمق في التفاوت هذا بلغة عادية (ص 7) كما يقول، أي يفهمها كل البشر وابرزهم “المنبوذين” من الموت، اي الذين يحييون.
ترؤس الله العنوان بدلالة “العليم” بثنائية متعارضة مع الصورة النمطية عن السمكري، اي صاحب المهنة الصعبة غير متقن لا اللغات لانبثاقه من الفقر، اكسب هذا السمكري، صاحب المهنة، القدرة على اعادة تشكيل مادة الهواء لا الحديد. والهواء موجود اينما كان، قد يعيش عليه الانسان ليحيا، فاوكل قدرة اذكاء الحياة الى السمكري، وقد يدخل الشيطان بين السماوات والارض عبر الهواء كما يتحدث الرسول بولس عن الشيطان قائلاً عنه أنه ” رئيس سلطان الهواء .. ” (أف 2: 2).
هكذا بدأ سرجون يقشّر جلدة شعره بذرة بذرة، فتحول الى محامي المراة مطالباً بحقها بالتساوي مع الرجل بهذه اللغة العادية نفسها التي تنزاح خيالًا فتعطي قدرة التحكم بالحياة الى الشعراء فينتحرون اما الحياة فهي للمرأة التي “تتأمل باعجاب أصابع قدميها كلما استيقظت من نوم/ تحصي بها الطيور والوان الازهار في الحديقة؟”. وبين الشعراء المنتحرين وبين النساء اللواتي يتمتعن بالطبيعة المتمخترة على ارجلهن، منبوذون من الموت يسلكون طريق الهواء. وفي قصيدة أخرى بعنوان “أحب حكايتي كما هي”، يعود الى نبوغ الشعراء ويعطيهم القدرة على جذب النساء، لكنه يولي نفسه القدرة على التميز عنهم فلا يعاشر نساء الارض “بحجة أنني شاعر”. اعترافه بشعريته وربطها بالدفاع عن النساء وحبه اياهم ورفضه الانتحار بالاقرار “إنه يحب الحياة كما هي”، اعطاه القدرة الى ان يدرك خطورة شعره فاعطاه لون الثورات “حمراء”، وبينما ابعد عن نفسه رغبة الانتحار الا انه اوكل قدرة احداث الموت به الى اتباع القرون الوسطى الذين لا يفهمون لا العلم، ولا الفكر، ولا الافكار المجددة. هكذا انتقل الى الدفاع عن المرأة الى مناصرة اصحاب الفكر فامتلك بالفكر قدرة الله فـ “يمر بعدة السمكري/ اصلح الهواء/ أشد براغي الحجاب/ وابدل السماء بجرس كنيسة”.
ومن المراة، وحبه الحياة بها، واحترامه لها، ودفاعه المستميت عن انوثتها، ونبذه اللعب بعواطفها بالكلمات. انتقل الى الطفل. وللطفل والطفولة حقوق:
من يعرف شعور الطفل حين/ لا ارض تحت قدميه/ ولا سقف يظلل رأسه/ولا اي رجل ميلاد يحقق امنيته؟/ ان يكون رأسه الى اسفل/ ورجلاه تمشيان الى السماء/ كي يرى دائما كيف تولد النجمة/ كما تخرج من وكرها النملة؟ (ص 11). في هذه القصيدة بعنوان أسفار الشيطان، قلب الدنيا رأساً على عقب، وطفل يتخللها، فعيد الميلاد، اي مولد السيد المسيح، تنقلب حياة الطفل الفقير راسا على عقب، لتكون الارض هي السقف، ويضع الفقر راسه في التراب، وتتحول نجوم السماء الى نملة. فيعود في قصيدة برج بابل ليظهر كالله بعد ان اعطى لنفسه هذه القدرة سابقاً من برج بابل هذه المرة ليكون الناجون من الحروب، ذوو سوابق الطفولة، أطفالاً دومًا بعدما سرقت منهم السماء طفولتهم. انسانية وضعف سرجون، جعلته يشعر بقدرته كشاعر على مد يد العون الى الاطفال، وهذه القدرة المتفوقة، شملته بالـ “نحن”، خولته الا ان يشبه الله فلا يتزوج كالسيد المسيح. تتفتق ثورة الالم على الطفولة المستنكرة، في قصيدة لا طفل في، بعد أن اخذته يد “العهر البارد” الذي شرده في الطرقات، وفي الهواء. هذا الرجل العجوز نفسه تحول في قصيدة “أنت انطاكيا”، الى امراة برتبة قديسة لانها انجبت الاطفال حتى لو اطفالها تركوها وحيدة. لو ان هناك تمييز بحق الرجال في حين الا ان التميز هذا فيه شئ من غرور شاعر شرب من عشق الحرية في المانيا. فسرجون الذي تخصص في الادب العربي في البلمند، هام في الحرية في المانيا حيث اكمل علمه في هايدلبرغ. فكأن كل ثورته على كل تخلف في بلاده فجرها هناك. فتراه يسال في الحقيقة كما في شعره “لماذا”. لماذا الطفولة مرهقة، لماذا المراة ضحية، لماذا تضخيم قدرة الغرب في حين ان الغرب لا يفهم الشرق. فنهل من موسوعية اللغة العربية ولا محدودية الاوطان ليسافر في هذا الهواء نفسه، اينما كان. فوق الشرق وفوق الغرب ويدخل المحافل، ليعرّي عرّي الماسوني ويظهر انسانيته. فهذا الماسوني، صاحب المهن، مهنة البناء، بعد ان اصبح له كيان كبناء حر، انسان. يعرف الضعف، ويعرف البكاء، وكان طفلاً في بابل لا احد يفهم لغته، وسمكري، لكنه مثل سرجون، لم يفعل الا ان يحب المراة.
سرجون هذا، الذي اخذ اسمه من رمزية التاريخ، أعطى للغته رمزية الاديان، فعاد للكتاب المقدس، ومنها اقتبس اللغة العادية، التي لا تحتاج الى قاموس، ومن القران الكريم صفات الله، كانه قرب الله بانسانيته التي حاول ان ينظف صورتها، بكأس الخمر فيها خمر، لا دماء تنتظر من يلعقها في البحر.
الغرور المتضخم هذا أيضا اعترف به في قصيدة “تطهير” معترفاً بانه يود لو يخلص قصيدته من “الانا” الهائل، الذي كسر بالرجال وهو في صدد الدفاع عن المراة، ومن لا يعرفه، وتحول الى سائلاً منوياً، كما كل الرجال. علمًا ان الانا تارة تكون متضخمة من الحزن في قصائد الشعراء، وتارة اخرى تتضخم من الالم. الا عند هذا الرجل، كل ما اراده هو ان يعطي لنفسه القدرة على احقاق حق، ليكون هو “القصيدة التي تكتب بشرًا” بعد ان آلمته احزان النساء من الرجال وحروبهم.
من قصائده عن بيروت :
في مطار بيروت
أقاتل الغربة بالغربة
برجل مفلت دوما من شباك القصيدة
بمحبرة تكتب بالطمأنينة وتمحو بالسلام،
بعنف اعرض من شفرة المقصلة
بفم فاغر من المصيبة
ولسان ممتد امام الكائنات
كامتداد السماء.