سيميائية العنوان واللغة في ديوان «رسائل منسية على هوامش الحبّ والوطن» للشاعر رشيد جمال

النشرة الدولية –  إدريس سالم

يقول الشاعر في قصيدته «لا..!!»:

على نهديَ الأيمن

مَرسومٌ رُفات

والأيسرُ وطنٌ يعاني الازدحام

العابر إلى نسق الوجود

المُشرّدِ بينَ ثناياه

ويقول في قصيدته «الوطنُ المَنفيُّ»:

كم غريبٌ أنت من أناك!

كم أنت منفيٌّ في حضورك

وحاضرٌ في مراسيم الموت

المدوَّن على راحتي

القنّاص!!

كثرت الأعمال الشعرية التي صدرت منذ أكثر من ثماني سنوات، التي أنتجها الشعراء السوريون عامة والكورد خاصة، والتي دائماً ما تبحث في سيميائياتها عن الجودة والجدّة والرؤية الفكرية الجديدة والمميّزة، لكن قليلاً ما نجد هذه السيميائيات في الأدب عامة والشعر على وجه الخصوص في الوقت الراهن من عمر الحرب واللجوء وضياع الإنسانية، لأسباب متشعّبة ومتنوّعة، قد لا يكون المجال كافياً لسردها هنا، مع أنها ترتبط عموماً بوهن الحياة الثقافية والعلمية والتعليمية، غير أن هذا لا يعني أن الأدب – وخلال سنوات حروب وصراعات الربيع العربي – يخلو من النتاجات الإبداعية المميّزة والتجارب الخاصة شعراً وسرداً، ولعلّ هذا ما ينطبق على ديوان «رسائل منسيّة على هوامش الحبّ والوطن»، للشاعر الكوردي «رشيد جمال»، وهو ما دفعني إلى قراءة الديوان أكثر من مرّة، وبعمق شديد، والتساؤل حول بعض جوانب التميّز التي يتوكّأ عليها الديوان.

نلاحظ أن عنوان الديوان يقع في فصلين أو جملتين «رسائل منسيّة على هوامش الحبّ، ورسائل منسيّة على هوامش الوطن»، وفي كل فصل أو جملة هناك كلام مضاف إلى كلام آخر، والمحور بينهما هو «رسائل منسيّة» وأيضاً كلمة «هوامش»، بما تحملها من معانٍ على المستوى الذاتي والنفسي والاجتماعي والوطني، فمن ناحية أولى ندرك أن كلمة «منسية» تحمل معنىً سلبياً أو إيحاءات مؤلمة، إذ قد تقودنا إلى عزلة عن ما يحيط بروحنا وواقعنا، وقد ينسحب الأمر ليطال مجتمعاً محدّداً بكامله، كما أنه يشمل الشعور بالنسيان أو التناسي على المستوى الذاتي والنفسي، نتيجة الحرب واللجوء والغربة التي يعاني منها الفرد والمجتمع، وحتى الوطن.

في الفصل الأول يتحدث الشاعر عن المنفى الذاتي، وانتظار المجهول، والفقر، والوحدة والانعزالية، الألم والحبّ، ملاقاة والعيش مع الموت كصديق مخلص، والتعب العميق الذي يشعر به الروح والعقل تفاؤلاً وتشاؤماً، أما في الفصل الثاني منه، فهو شاعر ثائر على عاهات الوطن، إذ يرفض وطناً يناضل من أجله سياسيون لا همّ لهم سوى جمع الورق في إشارة منه إلى البيانات والتصريحات والحوارات الفارغة والأموال والنفوذ، وشراء النفوس، والأهم أنه يتحدث على مواطن لا يمتلك حقّاً في امتلاك هوية وطن حتى بذاته وروحه، أيّ هو منفي في وطن أنفاه العقل والرصاص.

في حين، وعلى الجانب الإيجابي فإن النسيان يصبح وجهة إرادية، نظراً لخيار يفرضه الفرد أو المجتمع، رفضاً للمسار الذي يتخذه المجتمع أو الوطن وما بينهما من قيم ومبادئ، ولذلك فإنها قد تعني راحة نفسية للذات، كاتباً وقارئاً؛ لأنها تحيا قيمها ومفاهيمها، خاصة وأن تجربة الشاعر كَفَرد هي تجربة المجتمع كَكُل.

ومن ناحية أخرى فإن كلمة «الحبّ والحرب» تدلان على عالم خاصّ بمشاعر متنوّعة ممزوجة بالأمل والألم، بالبكاء والضحك، مرتبطان بالشاعر حالة إبداعية وخصوصية نفسية، فالإلهام عند رشيد جمال ليس من الخيال، وإنما معاناة وتجربة معاشتان، وما في مجتمعه من معامع العقل والروح والقلب، إلا أنه من الناحية الشكلية فإن العنوان ليس بجديد، من حيث الصياغة الكتابية، إذ كان عنواناً مستنفداً، وهو ليس حالة سلبية والتي من الممكن أن يقرؤوها قُرّاء آخرون من تلك الزاوية، بقدر ما هي أداة للتعبير والإفصاح عمّا أراد إيصاله لنا.

يستطيع القارئ أن يلاحظ الحضور البارز للأفعال على نحو إيحائي مستمرّ للحدث الواقعي والخيالي، خاصة التي تدلّ على ضمائر المتكلمة والغائبة، إذ يمكن أن نجد من خلالها وجهاً من وجوه الرؤية الخاصة المستمرّة لدى الشاعر، وفي هذا السياق نرى بوضوح سيطرة الفعل المضارع ومن ثم الماضي على مفاصل الديوان، ما يعني الاستمرارية، وتجسيداً للحبّ والوطن الذي سيطر على حياته العاطفية والواقعية، إضافة إلى أن المعرفة طغت على عناوين القصائد، إذ كانت غالبية العناوين معرفة.

غير أن الديوان لم يقتصر على الجملة الفعلية، بفعليها (المضارع والماضي) فحسب، بل طغى عليه الجملة الاسمية المعرفية، وخاصة استخدام الشاعر للمعرفة في بداية غالبية قصائده، رغم أن الخيال أهم من المعرفة، إلا أن المعرفة كانت بمثابة نكرة له، لما فيها من صور وتشبيهات بليغة بإيحاءاتها الداخلية المستمرّة، كانت قادرة على صناعة المستقبل برؤى مختلفة.

انسجاماً مع العامل اللغوي، يطالع رشيد جمال المستوى المعجمي، ليظهر حالة الحبّ والوطن ورسائلهما المنسية حضوراً عاطفياً وواقعياً، إذ أن الديوان بحيويته اللفظية واضح الكتابة والقراءة، إلا أنه متشعّب المعنى، تتنازل حقول معجمية كثيرة تشكّل مظاهر الحبّ والوطن، كالتي تتعلّق بكيان الذات ووجودها، ويتضمّن: «قلبي – دمي – شراييني – غروري – جرحي – معطفي – أوراقي – قبري – ذنوبي – وسادتي…».

نلاحظ أن هذا الحقل يرتبط بذات الشاعر، حصراً في محاولة لإظهار حال رسائل الحبّ والوطن التي عاشها ويعيشها، إما إرادياً أو واقعاً قسرياً، وفي الوجهين يكون خاضعاً لحياته ومفاهيمه الخاصة.

وهناك حقل آخر ظهر في الديوان، من خلال الضمائر في الفعل المضارع والماضي، والذي أجبره على رفض الواقع وعدم قدرته على الاندماج، ومنها: «أنحني – يفضحني – يؤلمني – يكتبني – يحرقني – يرميني – يخنقني – يتجدّد – يسكب – تتراكم – أبحث – أرتّب…».

إن هذه الأفعال وما يأتي بعدها من كلام ضمن خيالات وصور تجعل من العالم المحيط بالشاعر غير قابل للاندماج فيه أو أنه في صراع معه، وهذان الحقلان يدلّان على أن المعجم كان مكوناً أصيلاً من مكونات الحبّ والوطن، وما بينهما من رسائل منسية، وتجسيداً لصورها المتنوّعة، وبالتالي كان فيها انسجاماً معنوياً وذاتياً مع مستوى العنوان والجمل الفعلية والاسمية.

إن استخدام الأسلوب الواضح جملاً ومفردات، في طرح القضايا الفكرية والعاطفية والموضوعية وضعه في بعض النصوص في لغة ضعيفة، ففي نصّ “قيثارة الوداع” على سبيل المثال، وفي بداية السطر الأول منه، يقول:

يأتي صوتُ القطار من بعيد

 

هنا استخدم الفعل ومباشرة فاعله، فلو جعلها جملة اسمية، لكانت أقوى وأعمق، وقد توقفت على هذه الجملة كثيراً، وغيرها من الجمل.

ويبقى القول، في أن الشاعر، وبتراجيديا أدبية امتزج بين الألم والأمل، بين التفاؤل والتشاؤم.. ليرسم صوراً وتشبيهات سريالية عن أسراره وآلامه الكئيبة التي تنخر في ذاكرته، وصراع الانتظار مع الحبّ والوطن والأديان والمعتقدات الفكرية، فَعَن استتارة أسراره وشجونه يقول:

هاربٌ من جنون العصافير

وحماقاتِ المكان

هاربٌ من ذاك القدر

المرسوم على روحي كما أنت

وعن آلام ذاكرته المنخورة بوحشية التعب والألم:

هل للذاكرة أن ترحل..؟

وهمسُها ما زالَ على طفولتي يلعب

وأنينُ الليل على ضريح يسكر

وفي صراعه عن الانتظار مع الحبّ والوطن والفكر يقول:

أهدابُ الشوارعِ مُبلّلة

بموعد كان موعدي

ماذا أقول..؟

للقلم الذي يكتبني

بلهيب الوجد يحرقني

في وهاد الحبّ يرميني

وعن الحبّ والعشق يقول:

ترسمين الجنون

على خاصرة النسيان

فالحبُّ والجنونُ شقيقان، توأمان

يلعبان معاً

على أجنحة الحمام

وأنت حبيبتي

أما زلتِ تحبين هديل الحمام؟

ونقرأ عن الخوف من ظلم سجون خائفة:

الجدرانُ اصفرّت

كلُّ شيءٍ من حولي يرتجفُ خوفاً

وأنا أراقبُ ذاتي

في مقلة الجلّادِ المُرتعِب

في ديوان «رسائل منسية على هوامش الحبّ والوطن» هناك وجه إبداعي حيوي، إذ استطاع أن يوصّلنا من خلال السيميائية واللغة المرهفة الواضحة المتشعّبة إلى نوازع الذات المستوحدة فيها، والتي تتخذ مسارات عاطفية وواقعية عديدة، للحبّ والحرب، إذ جاءت لغة الديوان واضحة وعميقة، لدرجة أنها تحتاج قراءات متأنّية حتى تفكّك سيميائياتها الجميلة والغامضة، فكل كلمة أو صورة وحتى الموسيقى الداخلية بمثابة الحجر في البناء اللغوي العام للديوان، وكل منها تحمل دلالات، وتنطوي على معان، وتتكامل في النهاية لتعطي معنى شمولياً ودلالات كلية، وقد ذكرت مقطعين من قصيدتين مختلفتين، للمثال على سيميائية الفكرة ولغتها.

* منقول عن موقع أنتلجنسيا للثقافة والفكر الحر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى