بعد 3 سنوات على عدم سداد الـ”يوروبوندز” هل القرار اللبناني كان صائبا؟
يربط متخصصو البنك الدولي الأزمة الاقتصادية والسياسية والمعيشية في لبنان بالهدر والفساد الحكوميين خلال الأعوام الـ30 الماضية
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
في السابع من مارس (آذار) 2020 أعلن لبنان، ولأول مرة في تاريخه، التخلف عن تسديد إصداراته من الـ”يوروبوندز” وعدم دفع مستحقاته، التي كان من المتوجب عليه أن يدفعها لأصحابها داخل البلاد وخارجها. استحق الجزء الأول أي ما قيمته مليار و200 مليون دولار بداية مارس حينها، ولكن بعد انتهاء فترة السماح للتسديد، اعتبرت الحكومة التي كانت برئاسة حسان دياب، أنها متعسرة. وأدى هذا التخلف عن سداد سلسلة السندات الـ”يوروبوندز” المستحقة، مارس 2020، إلى تخلف عن سداد جميع سندات المستحقة، بالتالي وبحسب متخصصين اقتصاديين وقانونيين أصبح بإمكان حاملي السندات من إصدارات أخرى أن يطالبوا بتسريع دفع السندات الخاصة بهم. أثار القرار الكثير من السجالات حول مدى نجاعته وصوابيته وتداعياته في ظل الأزمة “الكارثية”، التي وبحسب تقرير لـ”البنك الدولي” أن لبنان تعرض على مدار ثلاث سنوات تقريباً، لأزمة متعددة الأبعاد هي الأكثر إيلاماً وتأثيراً في تاريخه الحديث. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية المتواصلة التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 بفعل التداعيات الاقتصادية المزدوجة لتفشي جائحة كورونا والانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020.
ومن بين هذه الأزمات الثلاث، كان للأزمة الاقتصادية الأثر السلبي الأكبر والأطول أمداً. وصنف “البنك الدولي” الأزمة بأنها ضمن الأزمات الاقتصادية الأسوأ على مستوى العالم منذ منتصف القرن الـ19، حيث هوى إجمالي الناتج المحلي الاسمي (أي مستوى الأنشطة الاقتصادية للدولة في فترة زمنية محددة وبالأسعار الجارية)، من قرابة 52 مليار دولار عام 2019 إلى ما يقدر بنحو 23.1 مليار دولار عام 2021. وقد أدى استمرار الانكماش الاقتصادي إلى تراجع ملحوظ في الدخل المتاح للإنفاق. وانخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 36.5 في المئة بين عامي 2019 و2021، وأعاد البنك الدولي في يوليو (تموز) 2022 تصنيف لبنان ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، نزولاً من وضع الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل. وبحسب التقرير الدولي، أن مثل هذا الانكماش القاسي يصاحب عادة الصراعات أو الحروب.
ما هي “اليوروبوندز” وكم يبلغ عدد إصدارات لبنان منها؟
بحسب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنتدى الاقتصادي العالمي، ومقره سويسرا، الباحث مارون كيروز، في حديث خاص مع “اندبندنت عربية”، أن الـ”يوروبوندز” هي سندات دين بالعملات الأجنبية، وبالنسبة إلى للبنان، فإن العملة المعتمدة لهذه الإصدارات هي الدولار الأميركي. وعدد إصدارات لبنان من الـ”يوروبوندز” هو 27 إصداراً، تملك المصارف أو الشركات اللبنانية نحو الثلثين من مجمل أسهمها، والثلث المتبقي مملوك من قبل شركات أجنبية”. يذكر أن قيمة الديون الحكومية الصادرة بسندات “يوروبوندز”، تحديداً، ما إجماله 31 ملياراً و314 مليون دولار، موزعة على 29 استحقاقاً تمتد آجالها على مدار 18 عاماً، اعتباراً من التاسع من مارس 2020 حتى 23 مارس 2037.
ما قيمة الدين العام بالدولار؟
يقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي مدير “مركز إشراق للدراسات”، أيمن عمر، لـ”اندبندنت عربية” ووفق دراسة أعدها المركز، “تبيّن أن الدين العام بالدولار بلغ في نهاية عام 1993 نحو 327 مليون دولار وصولاً إلى 40.417 مليار دولار في نهاية أغسطس/ آب 2022، أي زاد أكثر من 123 ضعفاً. وقد استمر الدين بالدولار خلال 30 عاماً بمنحنى تصاعدي متزايد، ما يظهر مدى الخلل البنيوي في المالية العامة التي عاشت على الاقتراض والاستدانة. وقد وصل الدين العام إلى 772 مليون دولار في نهاية عام 1994 أي أكثر من الضعف في سنة واحدة، مسجلاً 5.529 مليار مع نهاية عام 1999. وإن كان من الممكن تفهم ازدياد الدين الكبير في بداية التسعينيات لمتطلبات الإعمار ومسح آثار الحرب الأهلية المدمرة، ما استدعى هذا الاقتراض المتزايد، غير أنه لا يمكن تفسير هذا الاطراد في الاستدانة بعد تلك المرحلة سوى ضمن العقلية المالية التي أدارت تلك الحقبة القائمة. وقد تراجع هذا الدين بين عامي 2007-2008 من 21.221 مليار دولار إلى 21.183 مليار، وكذلك بين عامي 2009-2010 من 21.319 مليار إلى 20.610 مليار، والسبب في ذلك هو المساعدات العربية عقب “حرب تموز” 2006، و”اتفاق الدوحة” 2009. وقد ازداد الدين العام ازدياداً ملحوظاً عام 2012، بداية توافد النازحين السوريين، ليبلغ 24.395 مليار عن عام 2011 بقيمة 20.959 مليار بزيادة 3.436 مليار وهي الزيادة الأكبر في تاريخ الدين بالدولار. ومع التوقف عن سداد الـ”يوروبوندز” في مارس 2020، ارتفع من 36.050 مليار عام 2020 إلى 38.515 مليار عام 2021، ليصل إلى 40.417 مليار نهاية أغسطس 2022″.
إنفاق عام عشوائي وزبائني
يربط متخصصو البنك الدولي الأزمة الاقتصادية والسياسية والمعيشية في لبنان بالهدر والفساد الحكوميين خلال الأعوام الـ30 الماضية. وأبدى البنك الدولي في تقريره الصادر في يونيو (حزيران) 2021 تشاؤمه من إمكانية ظهور بادرة تحول واضحة أمام لبنان في الأفق، نظراً إلى ما وصفه عمر بـ”التقاعس الكارثي والمتعمد على صعيد السياسات، إذ أججها الهدر والفساد الحكومي على مدى عقود”. ويضيف الباحث مارون كيروز “إنه لا يمكن القول إن السبب محصور بالتخلف عن تسديد الفائدة على سندات “يوروبوندز”، هذا القرار كان حتمياً في ظل الظروف الراهنة، ولا يمكن للحكومة أن تبرر التسديد إلى الدائنين، في وقت تفقد القدرة على الاستمرار بالقطاعات الأساسية مثل الاستشفاء والتعليم مثلاً، لكن طريقة تنفيذ القرار كانت غير مدروسة، كان يجب أن يترافق قرار من هذا النوع مع رزمة إجراءات لدعمه، أولها قرار “الكابيتال كونترول” إضافة إلى إصلاحات جذرية في الإنفاق العام وبداية لمعالجة الفجوة في القطاع المصرفي”. وبحسب كيروز فإن الأسباب العميقة للأزمة، سببها إنفاق عام عشوائي وزبائني، أدى إلى مديونية لا قدرة للبلاد على تحملها. إضافة إلى قطاع مصرفي لم يراع قواعد الاستثمار والإدارة المالية الرشيدين، فوضع القسم الأكبر من أصوله في سلة الاستدانة الحكومية. وأتى قرار الامتناع عن الدفع كنتيجة لهذه الظروف.
لبنان سينتظر حتى عام 2040 كي يبدأ بالتعافي
وفقاً لتصنيف البنك الدولي بأن ما يعيشه لبنان حالياً، أسوأ ثلاث أزمات مرت بالعالم بعد تشيلي وإسبانيا، فقد احتاجت تشيلي إلى 16 عاماً للتعافي من انهيارها عام 1926، وإسبانيا بعد حربها الأهلية (1936-1939) استغرق تعافيها 26 عاماً، أما بالنسبة إلى لبنان فقد يستغرق من 12 إلى 19 عاماً للتعافي. بحسب الباحث مارون كيروز “للخروج من الأزمة، من الضروري أولاً الإقرار بأن الخيارات المؤلمة قد نفذت بسبب تأخر السلطة السياسية في اتخاذ الإجراءات اللازمة في بداية الأزمة. واليوم أصبحنا أمام خيارات صعبة، من شأن تأخر اتخاذها أن يؤدي إلى إطالة الأزمة، مما يعني أن لبنان سينتظر لعام 2040 كي يستعيد حجم ناتجه المحلي كما كان عشية الأزمة عام 2019. وأمام هذه الخيارات، يجب أن تكون العدالة الاجتماعية المعيار الأول في تحديد من يخسر ومن تتم حمايته”. ويرى كيروز أن المطلوب اذاً سلسلة إجراءات أبرزها التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإقرار قانون “الكابيتال كونترول”، وإعادة هيكلة الدين الحكومي ليصل إلى ما دون 100 في المئة من الناتج المحلي (وإن أمكن إلى 60 في المئة)، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإلغاء قانون السرية المصرفية، واعتماد مبدأ تحميل الخسائر بالتناسب مع حجم الودائع، وإنشاء لجنة تحقيق برلمانية (أو بصيغة أخرى) للتدقيق في ما يتم تناقله عن استنسابية المصارف في الموافقة على التحويلات المالية، واعتماد استراتيجية للاندماج الاقتصادي مع دول الخليج والاتحاد الأوروبي.
إعادة البناء على نحو أفضل
يذكر أن مجموعة البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وبناء على التوصيات التي انتهى إليها التقييم السريع للأضرار والحاجات، في ديسمبر (كانون الأول) 2020 أطلقت إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار (3RF) لتلبية حاجات لبنان الفورية والقصيرة الأجل، وهو إطار محدد الكلفة بحسب الأولويات للإجراءات اللازمة لدعم التعافي وإعادة الإعمار في لبنان، ويهدف إلى “إعادة البناء على نحو أفضل” من خلال تبني نهج متكامل يتركز على تحقيق تعاف محوره الإنسان، وتهيئة الظروف من أجل إعادة الإعمار في الأمد المتوسط، والشروع في إصلاحات هيكلية رئيسة على أساس مبادئ الشفافية والشمول والمساءلة. تأسس الصندوق الائتماني المخصص للبنان (Lebanon Financing Facility) رسمياً في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2020 بغرض بدء عملية التعافي الاجتماعي والاقتصادي الفوري لفئات السكان الأكثر احتياجاً، ومنشآت الأعمال التي تضررت جراء الانفجار “4 أغسطس”، ودعم جهود الحكومة اللبنانية في تحفيز الإصلاحات وتهيئة الظروف للتعافي وإعادة الإعمار في الأمد المتوسط. ويوفر الصندوق وسيلة مهمة لتجميع موارد المنح وتدعيم الاتساق والتنسيق بخصوص الموارد التمويلية، بما يتماشى مع أولويات إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، وهو يعتمد آليات تنفيذ مرنة وآليات متابعة ورقابة مالية وتعاقدية قوية. ووفقاً للصندوق الائتماني، يحتاج لبنان وعلى المدى القريب، إلى اعتماد وتنفيذ استراتيجية موثوقة شاملة ومنسقة لتحقيق الاستقرار المالي الكلي، وذلك ضمن إطار متوسط الأجل للاقتصاد الكلي والمالية العامة. وتستند هذه الاستراتيجية إلى برنامج لإعادة هيكلة الديون يهدف إلى تحقيق القدرة على الاستمرار في تحمل الدين على المدى المتوسط، وهيكلة شاملة للقطاع المالي لاستعادة ملاءة القطاع المصرفي، وإطار جديد للسياسة النقدية يهدف إلى استعادة الثقة في سعر الصرف وتحقيق استقراره. وكذلك التصحيح التدريجي للمالية العامة والإصلاحات المعززة للنمو، وتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية.