نصدّق الناجين والناجيات من سلطة الموضة
بقلم: مصطفى أمين

النشرة الدولية –

إنّ جرائم الموضة تُنتسى مع موت الذات… ومعظم ضحايا الموضة لا يمتلكن أدوات تُعينهنّ على طلب العدالة في وسط اجتماعي مبني على الترويج واستهلاك آخر الصيحات والتخلّي عنها في أقرب فرصة. فمن سيصدق الضحايا عندئذ؟ وكلّ من يخلع الموضة تسقط عنه الصفات المحبّذة، ويصبح في عداد القديم المتهالك الذي لا يقوى على مجاراة مجتمع الموضة أو يوصم بالماضوية نسبة إلى الماضي القديم. في عالم الترويج الدائم للسلع، تتميز العلاقة مع الموضة بالتجويع البصري، إذ تحرمك الموضة من رؤية نموذج ترضاه أنت، أو كما يقول تيودور أدورونو “تخدع مستهلكيها باستمرار بما تعدهم به باستمرار”، فتمدّ السوق بنماذج عديدة تضطر إلى شرائها رغبة في مجاراة آخر موضة، أي موضة.

إنّ اللّباس يتبدّى فعلياً في قدرته على التعبير عن الذات وفردية الإنسان بوصفه رمزاً من رموز التعبير اللغوي والدلالي. وسيميائية الموضة تُعنى بالملابس التي تشكّل التعبير عن الذات خلف الأسلوب الذي يعتمده الفرد من خلال الزيّ. والغاية منه جعلك مقبولاً ولائقاً بنظر مجتمعك تماماً مثل تعبيرك اللغوي. ويقول رولان بارت في حديث صحافي يعود إلى 1967: “إنّ اللّباس هو أحد المواضيع التي نتواصل بها مثل الأكل والإشارات، وقد كنت دوماً في غاية السّرور وأنا أستنطقها لأنّ لها حضوراً يوميّاً ويمكن بها أن أتعرّف إلى نفسي فوراً لأنّي أستثمرها في حياتي الخاصّة، ولأنّ لها من جانب آخر وجوداً ذهنيّاً ويمكن تحليلها تحليلاً نظاميّاً بوسائل صوريّة”.

إذاً اعتبر “بارت” اللباس لغة من وجهين، أوّلهما ما يقوله اللّباس، وثانيها ما نفهمه منه بواسطة الألوان والحركات وتوّزع القطعة على الجسد؛ حجمها وضيقها. يُعدّ اللباس سيميائياً دالاً على كينونة الشخص وهويّته؛ ففي البنك مثلاً، تُميّز بين الموظف والمودع من خلال اللباس، فاللباس إذا ما تمّت قراءته قراءة سيميائية، فإنه من أنجح الوسائل للكشف عن هويّة الإنسان وتفرّده.

والأزياءُ عند “بارت” ليست مجرّدَ ألبسةٍ فقط، وإنَّما هي أنساقٌ كامنةٌ وظاهرةٌ مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالثقافةِ التي تمثلها، كما تحتوي في الآنِ نفسه على خطاباتٍ في غايةِ الخطورة. ولذلك فالموضة عند بارت سردٌ كونيّ شموليّ تنتظمُ فيه الأزياءُ بوصفها علاماتٍ كونيّةً كبرى دالةً ومؤثِّرةً. إلّا أنّ سوق الموضة ألقى ضغطاً هائلاً على فئات المستهلكين (الضحايا) لتجريب منتجات هذا السوق بطريقة أو بأخرى من خلال أدوات خسيسة تحمل طابع الابتزاز اللغوي/الذوقي مثل الإعلانات، الأفلام، التسويق، العارضات، الوصف، المناسبات العلنية. لكن من المحتمل، في بعض الحالات نتيجة رفع الوعي الطبقي أو إدراك وفهم هذه الأدوات الرأسمالية وأهدافها، أن يصل المستهلك إلى حالة المناعة الذوقية فلا يصاب بفيروس الرغبة، ولا يقع في فخ تجريب الموضة السائدة. في هذه النقطة تحديداً نمشي عكس تيار إدمان الموضة أو قهرية الموضة التي تدفعنا لأن نشتري مراراً وتكرارًا من دون رادع وبطريقة غير عقلانية أزياء لا حاجة لنا بها، وقد تكون في كثير من الأحيان غير مُرضية لأذواقنا الشخصية، بل تكون فقط انسياقاً وراء موجات الترويج الضخمة للصرعات الحديثة التي نفتتن بها لفترة قصيرة، ثم تفقد بريقها وقيمتها عندما نضعها في خزانة الملابس ويصاحبنا شعور عميق بالندم لكوننا اكتنزنا شيئاً لسنا بحاجة له أو لا يرضينا على أقلّ تقدير. هذا الشعور يشبه شعور أن يظهر الشُرطي في مسرح الجريمة بعد فوات الأوان.

إنّ المشكلة الأساسية ليست في ما قاله بارت “أنّ للموضة دلالات يمكن استخدامها في الحياة اليومية”. ولكن المشكلة تقع في سوق الموضة الذي جعل المستهلكين مُستَنسخين ليس في الذوق فحسب، بل في الاتجاه نحو اختيار اللباس. ففعلياً ما نصطلح عليه اسم موضة لا يعني اللّباس ولكنّه يعني اتجاه السوق. وهذا الاتجاه يستغلّ قدرة اللّباس على التعبير عن الهوية الذاتية للمستهلك ليطوّعه للقدرة على التأثير في الاتجاه العام لدى المستهلكين فيكونوا في محصلة الأمر أشخاصاً متشابهين، وهنا نجح السوق أو الموضة تحديداً في اختراق “الفاشن سيستم” كما وصفه بارت، والمتعلّق بالسيميائية الفريدة أو اللهجة الذوقية لكلّ مستهلك. وبدلاً من الفرادة، أرغم الفرد بشكل أو بآخر بأن يكون ضحية الموضة. لكن الضحية غالباً ما تجهل أو ترفض تقبّل حقيقة أنّها ضحية؛ إذ لديها مصالح مشتركة تجعلها متعايشة مع جرائم الموضة التي تخوّلها تحقيق القبول الاجتماعي كأمر لا مفرّ منه، بل تزداد الحاجة إليه لتعويض النقص وإشباع الذات.

ولكن في بعض الأحيان تشهد الموضة موجة من المقاومة من قبل الممانعة الرأسمالية (مبادرات فردية) التي تتحدّى الصمت المتوّقع من أفراد هذا المجتمع، تحديداً تجاه العنف الموضوي، تتمثل هذه المقاومة في أشكال متعددّة بدءاً من فضح اللعبة الموضوية وانتهاءً في مقاطعة سوق الموضة نهائياً، ولكنّ هذه الموجات تتسارع أيضاً في موجات علنية غير مسبوقة بالتضامن مع الناجين وتصديقهم. إنّ العنف المُوضوي عادة ما يهدف إلى ممارسة سلطة تجاه الناجين والناجيات، ويعتمد في الأساس على الحماية المجتمعية التي تسوّق للموضة تحت مسمّى الاستحسان والتجديد، إلا أنّ التجديد لا يبنى من خلال أي شكل من أشكال فرض الاتجاه غصباً على الأفراد. ونتيجة لذلك لا بدّ أن  تتحوّل “الممانعة الرأسمالية” الفردية إلى مبادرات جماعية تهدف إلى سنّ قوانين لتجريم الموضة وحماية المستهلك منها، ما يجعل السوق أكثر أمناً والموضة أكثر إنسانية في التعاطي مع المستهلك لعدم قدرتها على الإفلات من المحاسبة والعقاب.

زر الذهاب إلى الأعلى