مدن بلا سكّان: النّظرة التشاؤميّة في الرّواية المعاصرة* دكتور سناء شعلان

النشرة الدولية –

في القصّ الشعبي يكثر الحديث عن مدنٍ كاملة تُفرغ من أهلها من دون سبب كما في ألف ليلة،  فيتركون الأواني والأسواق والقصور دون أن يمسّوا شيئاً فيها، أوأن جميع سكانها تحّولوا إلى تماثيل حجرية، أو إنهم يغطّون في نوم لا آخر له.  وكثيراً ما يقفز السحر كتفسير لهذا الوضع، وفي التاريخ العربي نقرأ عن العرب البائدة وهم عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم ….. وكلّهم هلكوا بسبب حوادث طبيعية، وهذا احتمال آخر لخلو المدن من أهلها.

أمّا رواية (حارس المدينة الضائعة) للروائي  الفلسطيني إبراهيم نصر الله الصادرة عام 1998، فهي تقدّم توليفية كابوسيّة لشخصية سلبية مهمشة تطحنها الحياة اليومية في عمان، وتقف في موازاة الواقع، ضمن ثيمات  تخيلية فنتازية لمواطن أردني يستيقظ ليجد مدينة عمان قد باتت قفراً من أهلها.

في رواية (حارس المدينة الضائعة) يستيقظ سعيد الذي لم نعرف اسمه إلا عندما عرفنا فيما بعد أنّ ابن أخته سمي سعيداً على اسمه، والذي يعمل مدققًا بسيطًا في إحدى الصحف اليومية (الرأي)، ويتجه إلى عمله كدأبه في كل يوم،لكنّه يتفاجأ عندما يجدّ عمان فارغة من سكّانها،يبدأ في البحث عنهم،ولكنّه يعجز عن إيجادهم،فيعود إلى بيته كسيراً حزيناً،وينام،وفي الصّباح عندما يستيقظ يجد نفسه في عمان الصّاخبة التي تهصره دون رحمة،ويتفاجأ أنّ الصفع هو حظّ كلّ إنسان في المدينة،ويقبل ذليلاً بهذا الصّفع شأنه شأن غيره من المواطنين،ويتعامل بكلّ أريحية مع ذلك، وينسى أمر اختفاء سكان عمّان لمدة يوم بعد أن قرر قائلاً :”إن لم يتحدثوا فيه، فلن أتحدّث”.

من الجائز أن يتردّد القارئ أمام هذا السرد، وهل اختفاء سكان المدينة حقيقي أم لا ؟ أم هو مجرد تعبير عن “عمق إحساس البطل بالعزلة،فقد يكون الناس موجودين فعلاً،لكن البطل لا يراهم، وهنا يصبح الاختفاء رمزاً أو مؤشراً لشدّة العزلة التي يعانيها الإنسان المعاصر في المدينة وضياعه. أم هو حلم، وكلّ الصور السردية والحوارية المتخيلة والواقعية عبارة عن ومضات ولقطات حلمية.

وأياً كانت الإجابة، فنحن أمام سرد فنتازي ذي أحداثٍ غريبة تبعث الشّكّ والرهبة والخوف في نفس البطل والمتلقي، ضمن بناءٍ حلمي يعمل على انعدام المسافة بين الواقع والخيال. وقد استثمر إبراهيم نصر الله تقنيات التفكّيك المتعمد للحدث، ولعبة التماهي ودلالات ترتيب العناوين ونقل القارئ من العالم المتخيّل إلى العالم الواقعي. وتعدّد التدخلات والتعليقات المباشرة في إبقاء القارئ منغمساً في عالمه المعيشي لا منغمساً في عالم الفن.

فإبراهيم نصر الله قد نجح -في اعتقادي- في تقديم رواية ترتكز على السرد الغرائبي،وتحسن توظيف معطياته في بناء سردي يقدّم ذاته في بوتقة فكرية جديدة تعبّر عن الواقع بغير الواقع،وتكشف التحطيم وعدم فهم نفسية الشخصية العربية الواقعة تحت تأثير أنظمة سلطة متعسفة، فشلت في مواجهة الأعداء الحقيقيين وتحوّلت ضد شعبها مقلّلة من شأنهم ومن عزتهم لكي تفرض سلطتها عليهم، وتسكت أي صوت معارضة يمكن أن يواجهها.  فرواية (حارس المدينة الضائعة) كما يقول الدكتور عبد الرحمن ياغي هي رواية المغامرة العجيبة في مادتها وفي التحوّل إلى تشكيل روائي فيه غرائب، ويخفي أسرار الكاتب ويشف عنه، ويخفي أسرار الروائي ويشفّ عنه، ويخفي أسرار البطل ويشف عنه.

كما أنّ إبراهيم نصر الله نجح في تمثل ذلك الفراغ وتلك الغربة التي يعيشها المواطنون البسطاء في عمّان، فتنتظمهم في سعيرها، وتحوّلهم إلى مجرد دواب تتحرّك وتكدح لكي تحصل على لقمة العيش المغموسة بالذل والإهانة (باللطم). وفي النهاية يصبح الإنسان كأّنه يعيش في عالم قد هجره كلّ سكانه ؛ لشدة عزلته فيه، أو لنقل: إنّه أصبح نكرة لا يدركها أحدٌ في عالم معزول ومغلق دون البسطاء والكادحين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button