ليلة السقوط.. براعة فى نسْج الخيوط
بقلم: د. داليا مجدي عبدالغني
النشرة الدولية –
أجمل ما في الدراما أن تتحول إلى مرآة تنقل كافة الأحداث التي تجري في الحياة بكل مناحيها، سواء الاجتماعية أو السياسية أو النفسية، فهنا تكون جزء من الواقع الإنساني المُعاش، وتترك بصمتها على مر العصور والأزمان.
والحقيقة أن الموسم الرمضاني هذا العام مُكتظ بكل النوعيات الدرامية، وبالقطع هذا التنوع منح للأعمال ثراءً كبيرًا وأعطى الفرصة للمُشاهد لإشباع مُتعته البصرية والفنية من خلال مُتابعة مائدة درامية شهية، بها كل صُنوف الإبداع، ولكن هناك عمل أثبت جدارته على الإطلاق، ومن أول مشهد، لأنه نجح في نقل أحداث فترة عصيبة مرَّت بها الموصل بالعراق، وهذا المُسلسل هو “ليلة السقوط”، للكاتب والسيناريست الكبير “مجدي صابر”، والذي يتسم بعبقرية الكتابة، التي تمزج بين الواقع الحقيقي، والخيال التشويقي، فلقد نقل إلى المُشاهد أحداث وصراعات حقيقية تتسم بقدر غير عادي من البشاعة الإنسانية، فالعمل يتناول تنظيم داعش والانتهاكات الوحشية التي اقترفتها في حق أهالي المُوصل بالعراق، من سفك دماء الأبرياء، وبيع النساء في سوق النخاسة على أنهم سبايا، واغتصابهن، واستباحة أعراضهن، وامتهان كرامة الضحايا بشتى الصور، علاوة على التعذيب البدني، والعنف القسري، والانتقام من المدنيين والعسكريين. وتطرق العمل إلى نزوح أهل المُوصل إلى أربيل وإلى الحدود الجنوبية للمدينة، بُغية الفرار. وكذلك السلوكيات الهمجية والتصرفات الوحشية للدواعش، وقد صوَّر المسلسل حرب الأهالي والدواعش في الشوارع، والقتل العلني للأهالي أمام ذويهم.
وأذكر مشهدًا أقل ما يُقال عنه أنه عالمي، وهو قيام “أبو عبد الله”، المُلقب بالدباح، والذي جسده وبجدارة فائقة الفنان “طارق لطفي” بذبح القاضي الذي حكم عليه بالإعدام في بداية الأحداث، وقطع رأسه ووضعها على مائدة الطعام أمام ابنته، والتي انهارت بمُجرد مُشاهدة رأس والدها المقطوع، ثم قيامه بخطفها وسبيها، والتي أدت دورها ببراعة الفنانة السورية “كندة حنا”، وقد استطاعت تجسيد مشاعر القهر من خلال تعبيرات وجهها البريء، وكذلك الفنانة الأردنية العبقرية “صبا مبارك”، والتي جسدت شخصية الطبيبة الإيزيدية “جوانا”، والتي تُؤمن برسالتها الطبية، فتقوم بإنقاذ المُصابين من الأفعال الوحشية للدواعش، لدرجة أنها تؤجل زفافها، حتى لا تتقاعس عن أداء رسالتها المُقدسة، ولكن يتم اختطافها من قبل “الدباح” ويتم عرضها في سوق النخاسة، في مشهد تنطبق عليه المقولة الشهيرة “ارحموا عزيز قوم ذل”، وقد برعت في تجسيد حالة الذل الذي يكتنفه الكبرياء المُتأصل بداخلها، ثم تُصبح سبية لدى “طارق لطفي”، والذي يُحاول قهرها بشتى الطرق، بسبب وقوعه في غرامها، منذ لقائه الأول بها في المستشفى في بداية أحداث المسلسل.
ولا خلاف على أن المؤلف نجح وبذكائه المعهود أن يمزج بين السلوكيات الوحشية للدباح، وبين إحساسه كإنسان قد يقع في الحُب رغم وحشيته، وهذا أروع ما في الأمر، وهو أن يتم إظهار كافة الجوانب الإنسانية التي تتصارع بداخل الإنسان، فللأسف، كثير من الكُتَّاب يقعون في فخ إظهار الشخصية، وخاصة لو كانت محورية من زاوية واحدة فقط، أما “مجدي صابر”، فدائمًا ما ينجح في إجلاء المشاعر الإنسانية المُتضاربة داخل النفس البشرية، فلقد أظهر كل شخصيات العمل من عدة زوايا، فالضعف والقوة نجدهما يتباينان في جسد واحد، والقهر والكبرياء يتصارعان في عقل واحد، والحُب والكراهية يتقاتلان في قلب واحد.
فهذا العمل يُعتبر مزيجًا بين الأحداث السياسية، التي تظهر فيها المُقاومة الشعبية بكافة جوانبها، وبين الأحاسيس الإنسانية، والتي تتأرجح بداخل الشخصيات، بشكل يهز كيان المُشاهد، لدرجة أنه يستشعر أن مَنْ أمامه شخصيات حقيقية تتألم بصدق، فأعترف أنني استشعرت في لحظات كثيرة أن تلك الأحداث مرت على شُخوص حقيقية من لحم ودم، وأنهم ليسوا من خيال المُؤلف، بسبب دقة الأحداث، والاهتمام بالتفاصيل، والشكل السردي للحوار، الذي تفنن في نقل كل الزوايا، سواء السياسية أو الإنسانية.
ولا ننسى الإخراج المُتمثل في المُخرج السوري “ناجي طعمي”، والذي نجح في نقل التفاصيل الدقيقة في تصوير مشاهد المُقاومة والتفجيرات والمعارك والأكشن، علاوة على اختيار مواقع حقيقية للتصوير، مما أعطى مصداقية للمشاهد.
فهذا العمل يُؤكد أن الأعمال المُستوحاة من أحداث حقيقية ستظل لها الصدارة دائمًا، وستترك بصمتها في تاريخ الدراما، خاصة لو تم نسج خُيوطها بحرفية دقيقة، وهذا ما يتميز به الكاتب المُبدع “مجدي صابر”.