الدراما العراقية تستلهم حكاياتها من الواقع وهمومه

النشرة الدولية –

النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي –

هل تحافظ الدراما على مسؤوليتها المجتمعية في طرح أولويات المجتمع أم تنحرف شيئاً فشيئاً في اتجاه طرح أولويات “الترندات”؟ صحيح أنّ المفاهيم غير ثابتة ومتحوّلة بتحوّل السياقات ولا يمكن أن تكون المسؤولية الاجتماعية للدراما التلفزيونية في التسعينات كسنوات الألفية الحالية، ولكن تظلّ هناك نقاط محورية ومركزية في وظيفة الدراما في المجتمع.

وفي هذا المقال، سنتوقف عند الدراما العراقية المطروحة خلال الموسم الرمضاني الحالي لمعرفة مدى التوافق بين الواقع المجتمعي كما تطرحه الدراما والصورة الذهنية التي ورّثنا إيّاها الإعلام عن هذا البلد، كمشاهدين تونسيين وعرب.

ورغم أنّ الدراما العراقية لا تحظى باهتمام صحافي وجماهيري عربي، نجد من المهم الحديث عنها ومقاربتها مع راهن العراق والأخبار الشائعة عن الطائفية والانقسامات والشقاق الذي ينتهي عادة إلى ممارسات العنف والصراعات الأهليّة، وزد على ذلك الظروف السياسية و الإقتصادية للبلاد.

لا يمكن تلقي الأعمال الدرامية العراقية من دون التأثر بكلّ جزئية من الصورة الذهنية التي تكوّنت عن العراق وبكلّ المعتقدات وربّما أيضا الأفكار الانطباعية التي ننجرف أحيانًا خلفها. ومن هنا السؤال: هل تمكّن “خيال” المبدع من كسر نمطية صورة العراق في الخارج وتقديم صورة مغايرة عمّا يسيطر على المخيال الاجتماعي للمتلقي؟ وقبل ذلك: ماهي أولويات المواطن العراقي بالرجوع إلى المسلسلات والأعمال الكوميدية؟

للإجابة عن هذا السّؤال تابعنا عيّنة من المسلسلات العراقية وهي: مسلسل ” خان الذهب” للمخرج بهاء خداج وتأليف محمد حنش (بطولة: سامي قفطان وأميرة جواد وغسان إسماعيل وسيف الشريف وسارة البحراني ورويدا شريف)، ومسلسل “المتمرد” للمخرج يزن أبو حمدة، وتأليف ندى عماد خليل (بطولة علي ليو، وهند نزار، وجمان كاظم، وحسين عجاج، ورياض شهيد، طه المشهداني)، ومسلسل ” غيد” للمخرج والمؤلف علي فاضل (بطولة خليل فاضل وجمانة كريم وآشتي حديد).

هذا بالإضافة إلى أعمال كوميدية مثل “قط أحمر 3”  تأليف أحمد وحيد وإخراج مصطفى حكمت (بطولة أحمد وحيد وزهور علاء وحسن حنتوش) والعمل الكوميدي “دهن حرّ” للمخرجة رندلى قديح والمؤلفان حسين النجار وبكر نايف (بطولة إياد راضي وإحسان دعدوش وزهور علاء وسولاف  جليل وسعد خليفة ومازن محمد مصطفى).

واذا تأملنا في هذه الأعمال، سنجد أنّ أبرز القضايا المطروحة تتمحور أساسًا حول النقاط التالية:

صورة العائلة العراقيّة

تقدّم الدراما الصورة السّائدة للعائلة التقليدية داخل المجتمعات العراقية، وفي الآن ذاته تحاول التمرد عليها برسم ملامح العائلة الحديثة ولكن بشيء من “الإحتشام “. وبناء على تجارب بعض الشخصيات في مسلسل “الذهب” و”مسلسل المتمرد” مع الزواج بالإكراه (وهي ظاهرة في العراق مع انتشار الحكم العشائري)، نلاحظ صراعاً بارداً مريرًا وإن بدون دويّ.

حاول أمير في “خان الذهب” إرضاء والده بزواجه الأوّل من إبنة عمّه وعاد إلى حبيبته في زواجه الثاني و هو يكابد حتى لا يتنصل من هويته وانتمائه، بما يبرز هذا التمازج بين الحاجة الى التحرر وفي الآن ذاته التمسّك بالجذور.

والحقيقة أنّ العائلات التي سوّقت لها الدراما- على تزمتها وتعصبها في تمسكها بتقاليدها- فإنها في حدّ ذاتها ميزة المجتمع أمام تشظي مفهوم العائلة وتلاشيه في مجتمعات أخرى بفعل الغزو الرّقمي.

 
أزمة الجنسيةوفوضى الأسلحة
أصيل الشخصية الأنموذج في مسلسل “المتمرّد” تعكس معاناة العديد من العراقيين المحرومين من الجنسية لأسباب مختلفة. وهذا ما تؤكّده تقارير إخبارية وإعلامية، بعدما تمّ تسجيل ولادات ووفيات لشخصيات عديمي الجنسية في العراق بسبب حروب وأزمات سياسية متعاقبة بدءًا من التسعينات وحتى الاحتلال الأميركي. ويحرم العراقي غير الحامل للجنسية من حقوقه الأساسية كالدراسة والعمل والزواج. وقد عالج مسلسل المتمرد هذه القضية وطرح المسار القانوني من خلال شخصية المحامية هديل التي تمكنت من إستخراج بطاقة جنسية أصيل.
يرصد مسلسل “المتمرد” فكرة تعنيف الآخر والإعتداء عليه حتى القتل ونلاحظ في أحداث المسلسل تغييب التدخّل العاجل للأمن. وفي أحد المشاهد، يأتي صديق أصيل (الشخصية الرّئيسة) ويعطيه سلاح بقصد إستخدامه في الدفاع عن النفس.
أما في سيت كوم ” قط أحمر3 ” فهناك أكثر من من مشهد يطرح إشكالات متعلّقة بالاستخدام “المتهوّر” للأسلحة وبالتالي تفشي العنف.
وفي مسلسل “غيد”، وخلال التحقيق في قضية إطلاق الرصاص على شخصية أحمد، يسأل المحقّق:”لماذا أطلق عليه الرصاص؟” ومن ضمن الاحتمالات التي يقدّمها :” هل هو مطلوب عشائريّا؟” وهو ما يعيدنا إلى مشهد هبة عشائرية على عائلة غيد للحصول على الرضيع ولكن والد غيد فرض اللّجوء للقانون.
“أبو النّفط”
يقول عون التنظيف (الممثل أحمد وحيد) في “قط أحمر3” لمواطنة ترمي الفضلات: “أنا العراقي أبو النفط ومو أبو الزبالة”، وتجيبه المواطنة” والله يمة ما شفنا شيء من النفط شفنا بس الزبالة”.
في سيت كوم “دهن حرّ” وفي مشهد داخل القصر الرئاسي، تقترح مستشارة الرئيس على زميلها مشروع مركز وطني للتجميل فيؤيدها طباخ الرئيس (الممثل اياد راضي) قائلاً: “فعلاً نحنا في العراق عندنا فقط ثلاث شغلات ندفع راتب، ناكل ونشرب ونام ونعمل تجميل وشفط”.
هذه من أبرز القضايا التي تشترك في طرحها الأعمال الدرامية والكوميدية، واللافت في أسلوب الطرح هي الجماليات الفنية ولو أنّ النسب متفاوتة. أما النقطة الأساسية التي صنعت ميزة في الدراما العراقية هي وضوح الفكرة والنص والبناء الجادّ للسيناريو وللشخصيات.
واللافت أن مثل هذه الأعمال قد تقدم مقترحًا فنيًا قادرًا على زعزعة بعض القتاعات السائدة في المخيال الاجتماعي. وهي نقطة تحسب للأعمال الدرامية العراقية التي سلطت على قضايا مهمة مازالت مؤثرة على المجتمع العراقي ومعرقلة في ضمان الإنتقال الدّيمقراطي.
لقد نقلت المسلسلات هموم الشارع العراقي وطرحتها بجدية- درامياً وكوميديا- ولكنّها تمكنت أساسًا من اختراق الصورة الذهنية والنمطية عن العراقي والعراق الموجوع منذ الغزو الأميركي الى اليوم. ورغم ظروفها الإنتاجية، استطاعت التسويق لثقافة الحياة والفرح. ولعله من أوجاعهم، أوجاعنا، يتسلل إليهم و إلينا النور.
زر الذهاب إلى الأعلى