القاتل الجماعي… المسكوت عنه في لبنان!
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

تابعتُ، منذ صباح أمس تحركات المجموعات البيئيّة المدافعة عن كوكب الارض، وتجمعاتها الاعتراضية على انعقاد الجمعية العامة لشركة “توتال انيرجي” في باريس المخصصة للتصويت ضد أحد تدابير قمة الارض التي سبق ان انعقدت في فرنسا، في العام 2015.

 

ويوجّه الناشطون البيئيّون الى كبريات شركات النفط العالمية تهمة إلحاق الضرر الفادح بكوكب الأرض ويحمّلونها مسؤوليّة أساسيّة عن ارتفاع حرارة “الكوكب الأم”.

 

ودخلت الشرطة الفرنسية في صدامات مع هؤلاء الناشطين الذين سعوا، من دون نجاح، الى منع انعقاد الجمعية العمومية.

 

واستغرب اصدقاء لبنانيون متابعتي لهذا الحدث وميلي نحو قضية الناشطين ، منطلقين من نظرية يرددها الجميع من دون هوادة: “الفرنسيون ما بيعجبهم العجب، فهذه الشركة ترفع اسم فرنسا عاليًا في العالم وتحقق أرباحًا مذهلة، ولكنّهم بدل ان يدعموها يصرون على محاولة تهديمها”.

 

لا أريد أن أظهر خطأ مقاربة اصدقائي، فنحن اللبنانيون عمومًا وسكّان بيروت الكبرى خصوصًا يستحيل أن يثير اهتمامنا مصير كوكب الأرض، فالنجاح المالي، في وطن يعاني من دولة فاشلة، يتقدّم على ما عداه من هموم، والدليل أنّنا نتلهّى عن “قتلنا بالاختناق”، اذ نعيش في مساحة جغرافية جرى تصنيفها بأنّها الأكثر تلوّثًا في منطقة الشرق الاوسط وترتفع فيها الوفيات الناجمة عن الجزئيات الدقيقة التي تملأ فضاءنا الى مستويات قياسية.

 

ومن المؤكّد عالمياً واقليميا ومحلياً، بالمعطيات العلمية طبعًا، أنّ تلوث الهواء يتسبب بأمراض صحية مزمنة وخطيرة، مثل مشاكل مرض القلب والسكري والانسداد الرئوي المزمن وسرطان الرئة، ويجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بالفيروسات التي تؤثر في الجهاز التنفسي.

 

وبالتدقيق العلمي والاحصائي يظهر، بوضوح، أنّ عدد الوفيات الناجمة عن أمراض تلوّث الهواء، ارتفع بنسبة خطيرة بين السنتين 2019 و2022، ليس بسبب تراجع الرعاية الطبية والاستشفائية فحسب إنّما بالارتفاع الخطر لمستوى تلوّث الهواء، أيضًا.

 

وهذا يعني أنّ الانهيار الاقتصادي والمالي لم ينل فقط من مستوى حياة اللبنانيّين بل  بدأ يأخذ أرواحهم أيضًا.

 

ولكنّ هذا الواقع، على الرغم من خطورته، لا يحظى بأيّ اكتراث من ضحاياه، فهم يهتمون بأمور كثيرة ويتجاهلون أمرًا جوهريًّا يتصل بحياتهم وصحة أبنائهم.

 

ويثير كثيرون  الكلفة المالية للادارة الكارثية لملف الكهرباء في لبنان، ولكن الغالبية العظمى تتجاهل الكلفة البشرية الباهظة، اذ إنّ الفساد في ملف الكهرباء يتخطى جرائم الهدر والاختلاس وصرف النفوذ واللصوصية ليصل الى مستوى القتل الجماعي عبر نشر عشوائي لآلاف المولدات غير المطابقة لمواصفات السلامة العامة.

 

قبل أيّام قليلة، استيقظتُ في بلدة لبنانية جبلية مكشوفة على بيروت، وتفاجأتُ ، في ساعة مبكرة من الصباح، بضباب أسود ورمادي كثيف يلف العاصمة وضواحيها البحرية. قبل سنوات، كنّا نشاهد فقط تكوّن موجة سوداء في ساعات الذروة، تحوم فوق البقعة الجغرافية نفسها.

 

وبيروت التي تملك واجهة بحرية واسعة تؤهّلها لأن تكون أنظف مدينة، خصوصًا أنّها ليست مركزًا صناعيًّا بل تقوم على الأعمال والخدمات والسياحة.

 

وعلى الرغم من ذلك، فإنّه مع تقدّم السنوات، بدل ان تزول الموجة السوداء، تضاعفت حتى اصبحت غلافًا شاملًا يثير القشعريرة بمجرد الاطلاع على مكوناته ومفاعيله.

 

قال لي  مضيفي الجبلي الذي يراقب هذه الظاهرة المتفاقمة منذ سنوات، ودفعته الى الامتناع عن زيارة العاصمة الا في حالات الضرورة القصوى: “أعرّفك على ملاك الموت الذي جعلني أكفر بالسياسيين وأتباعهم وبالمقاومين وشعاراتهم”.

 

قد يسخر شرقيون كثر  من الناشطين البيئيين الخائفين على الجنس البشري وكوكب الارض من استفحال عوامل التلوّث، ولكنّ الساخرين لا يدركون، في غالبية الأحيان، أنّ هؤلاء يدافعون عنهم وعن أبنائهم في مواجهة القاتل الجماعي.

 

لم يستطع الناشطون البيئيون الوقوف في وجه جدول اعمال  الجمعية العمومية ل”توتال انرجي”، ولكنّهم عدّلوا في انحراف نهجها الربحي، فهي تعهّدت بتخصيص قسم من أرباحها من أجل تسريع عجلة انشاء مصادر طاقة بديلة ونظيفة!

 

حبذا لو يجد اللبنانيون من ينشط في محاولة  لانقاذهم من قاتلهم الجماعي المسكوت عنه كسائر القتلة المتحكمين به!

زر الذهاب إلى الأعلى