لماذا فاز “تشريح سقوط” الفرنسي بذهبية كان؟
جوائز فاجأت الجمهور وأخرى كانت متوقعة وقانون المهرجان حرم ممثلات من الفوز
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية – هوفيك حبشيان –
انتهت الدورة السادسة والسبعون من مهرجان “كان” السينمائي (16 – 27 مايو/ أيار) أمس بفوز المخرجة الفرنسية جوستين ترييه بـ”السعفة الذهبية” عن فيلمها الروائي الطويل الرابع، “تشريح سقوط”. بعض المعلومات تفرض نفسها في هذا السياق: ترييه البالغة من العمر 44 عاماً، ثالث مخرجة تنال هذه الجائزة المهيبة التي سبق ان نالتها جاين كامبيون قبل 30 عاماً وجوليا دوكورنو قبل عامين، علماً أن الأخيرة هي عضو لجنة التحكيم التي يرأسها السويدي روبن أوستلوند. بفوزها، تكون فرنسا، البلد المنظّم للحدث السينمائي الأكبر في العالم، قد نالت عاشر “سعفة” في تاريخها. مسيرة ترييه السينمائية عمرها 15 سنة، وكانت بداياتها الحقيقية مع “فيكتوريا” (2016)، داخل قسم “اسبوع النقاد” في مهرجان كان.
استغلّت المخرجة التي تسابقت على الجوائز الرسمية للمرة الثانية في حياتها، صعودها إلى خشبة المسرح واستلام “سعفتها” من يد جاين فوندا، لقول تصريح سياسي عن إصلاح نظام التقاعد الذي يشغل الفرنسيين منذ فترة. ودانت الطريقة التي تعاملت بها السلطة مع هذا الملف، عندما قامت الاحتجاجات في الشارع الفرنسي. خطاب ترييه تضمّن أيضاً كلمة عن “تسليع الثقافة الذي تدافع عنه الحكومة النيوليبرالية والذي في طريقه إلى القضاء على الاستثناء الثقافي الفرنسي”. هذه اللفتة الأخيرة حظيت بتصفيق كبير من الحضور. وسارعت وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد الملك في الرد عليها عبر “تويتر” ووصفت كلامها بالـ”ظالم”، وقالت: “هذا الفيلم ما كان ليرى النور من دون نموذجنا التمويلي الفرنسي الذي يتيح تنوعاً غير موجود في العالم”.
“تشريح سقوط” عُرض في منتصف أيام المهرجان، وكان بمثابة رياح منعشة تهب على أفلام المسابقة الـ21 التي انطوت على عدد لا بأس به من الأعمال المهمة في دورة متماسكة، كما كنّا موعودين بها منذ الاعلان عن البرنامج.
ينتمي “تشريح سقوط” إلى نوع معروف في السينما وهو “أفلام المحكمة” التي كان عددها غير قليل في هذه الدورة، لكنّ السيناريو في فيلم ترييه يتجاوز هذا النوع، فهو متشعب ومتداخل، ينطلق من حادثة سقوط رجل من بيت في جبال الألب، انتقل للعيش فيه قبل عام مع زوجته وابنه ذي الأعوام الـ11. يؤدي السقوط إلى وفاته فوراً، تاركاً عائلته، وكل مَن يحاول الإحاطة بالحادثة في حال من حيرة. فالأسئلة كثيرة: هل السقوط فعل جريمة أو ناجم عن انتحار؟ لا يمر الكثير من الوقت قبل أن تصبح الزوجة (ساندرا هوللر)، وهي كاتبة ألمانية تعيش في فرنسا، متهمة وعليها أن تثبت براءتها، فتبدأ مذ ذاك سلسلة من الجلسات التي تعيد سرد حكايتهما الزوجية من وجهات نظر ومستويات مختلفة. هذه الجلسات تكون أشبه بقطع بازل تعيد بناء لوحة شاملة تساهم في بلوغ الحقيقة. تكون المحاكمة مؤلمة، خصوصاً للإبن، الذي لا يكفي أنه خسر والده، بل عليه أيضاً أن يخوض إجراءات قضائية بموازاة عملية الحداد الضرورية.
سرعان ما تتحوّل صالة المحكمة مسرحاً لتشريح العلاقة الزوجية المعقدة بين شخصين يعملان في المجال نفسه (الكتابة)، وتوجد بينهما بالتالي خلافات مهنية وأخلاقية وعاطفية كبيرة، تبدأ مع شعور الزوج بالدونية المهنية تجاه زوجته الأنجح منه مهنياً، ولا تنتهي مع تحميل الزوجة زوجها مسؤولية فقدان البصر الذي أصاب ابنهما إثر حادثة. هذه المحاكمة التي تفجّر المكبوتات وتموضع الأطراف في مواقعها الحقيقية، تعيد وصل الخيوط بعضها ببعض، فيتشكّل بورتريه لمَا يدور خلف الأبواب وداخل الجدران الأربعة. من خلال الكثير من المشاعر الملتبسة التي ترتسم على وجه الممثّلة الألمانية ساندرا هوللر التي تؤدي دور الزوجة، تروي ترييه حكاية متشظية أخرى بطلتها امرأة، وذلك بعد فيلمين سابقين هما “فيكتوريا” و”سيبيل”، جعلاها واحدة من أكثر المخرجات قدرةً على الحديث عن التجربة النسائية.
“منطقة اهتمام” للبريطاني جوناثان غلايزر حاز الجائزة الكبرى، وهي الثانية من حيث الأهمية في لائحة الجوائز، رغم أن كثراً كانوا يتوقّعون له “السعفة”. سُئِل المخرج خلال المؤتمر الصحافي ما إذا كان يحس بشعور سلبي لعدم فوزه بـ”السعفة”، فرد أن هذا سؤال لئيم جداً. وكان هذا الفيلم الذي يواكب عودة غلايزر إلى العمل بعد عشر سنوات غياب، محل اهتمام واسع عند النقّاد، وبعضهم اعتبره تحفة. وهذا لا يعني أنه كان على منأى من الجدال، لكونه يتناول المحرقة النازية باسلوب مغاير، فهو لا يجسّدها بالمعنى الكلاسيكي بل يضعها في الخلفية. من خلال لقطات تستند إلى حس جمالي وبصري مشغول بعناية، يرينا الفيلم يوميات أحد قادة أوشفيتز، يُدعى رودولف هوس. يعيش هوس على مقربة من المعسكر حيث قضى اليهود حرقاً خلال الحرب العالمية الثانية. هذه المنطقة التي يقيم فيها أطلق عليها “منطقة اهتمام”. نرى زوجة الضابط تهتم بتفاصيل منزلها الذي بحديقة وحوض، توليه عناية خاصة. هذا كله على بُعد مسافة قليلة من الأفران التي تنهش عظام اليهود. الزوجان وأولادهما يعيشون في هذه الجنة، ولا تبدو عليهم اي مظاهر الانزعاج والقلق.
الفيلم المقتبس من رواية للبريطاني مارتن أميس، يعود بنا إلى مسألة عادية الشر، هذا الشر الذي لا يمكن رؤيته رغم حضوره لحظة بلحظة. لا يكشف شيئاً مرئياً بل يقول استحالة رؤية ما هو غير مرئي، حاصراً فيلمه بين لحظتين افتتاحيتين، هما عبارة عن شاشة سوداء تغرقنا في العدم في تحريض واضح على التفكير. هذه ليست أول مرة تحكي فيها السينما عن صعوبة تجسيد الرعب والمآسي، لكن غلايزر يحملها إلى مستوى آخر من التحليل، ويحصرها في عالمه الخاص، ولا يوجد أدنى شك بأنه سيكون محل نقاش سياسي وسينمائي واسع النطاق عند عرضه في الصالات.
جائزة لجنة التحكيم ذهبت عن حق للمخرج الفنلندي الكبير آكي كوريسماكي وفيلمه “أرواق ميتة”. لم يحضر كوريسماكي حفلة الختام، فقد عاد إلى بلاده، فناب عنه الممثّلان ألما بويستي وجوسي فاتانين اللذان بدا وكأنهما يخرجان من الفيلم الذي لعبا فيه، لكثرة التطابق بين الواقع والخيال. يروي الفيلم لقاء بين امرأة تعمل في سوبرماركت ورجل مدمن على الكحول يُطرد من عمله باستمرار، ويعاني كلاهما الوحدة منذ زمن طويل في مدينة هلسينكي المملة، ويسمح لهم اللقاء بتجديد صلتهما بالحب. لكن، كل شيء في الفيلم يتماهى مع اسلوب كوريسماكي البارد والكئيب. يموضع صاحب “يوها” الحكاية داخل عالم متأزم حيث الناس الذين يعانون وحدة قاتلة، يحاولون التمسّك بالحب، ليتمكنوا من مواصلة رحلة البحث عن السعادة.
أما المخرج الفرنسي الفيتنامي تران أن هونغ، فاستحق جائزة الإخراج عن “شغف دودان بوفان”، وهو فيلم يعرفنا على متذوق أكل فرنسي (بونوا ماجيميل) يعيش مع طباخته (جولييت بينوش) تحت سقف واحد منذ عشرين عاماً، وثمة علاقة عاطفية بينهما. يحتفي هذا الفيلم الهادئ والحساس المقتبس من كتاب للسويسري مارسيل روف، بالمطبخ الفرنسي الرفيع، من خلال مشاهد طويلة ترينا كيفية تحضير أطباق فريدة ترد الإعتبار إلى مكان الطبخ في الحياة الفرنسية. لكن الفيلم ليس وثائقياً، بل متشبّع بالرومانطيقية والشغف. فيلم يعدينا إلى الماضي (القرن التاسع عشر) حيث الناس كانوا يملؤون بطونهم بلا أي اعتبار لهواجس التغذية الصحية السلمية.
كان الممثّل الفرنسي بونوا ماجيميل يستحق جائزة التمثيل عن دوره هذا، لكن قوانين المهرجان لا تسمح بإسناد جائزة الإخراج والتمثيل لفيلم واحد، لذلك وقع الاختيار على الممثّل الياباني كوجي ياكوشو الذي لعب في “أيام مثالية” للمخرج الألماني فيم فندرز، وهو عن يوميات رجل خمسيني ينظّف المراحيض العامة في طوكيو. نتابع يومياته على فترات متقاربة، منذ لحظة نهوضه من الفراش حتى عودته إليه ليلاً، وبين اللحظتين الكثير من التنظيف. تتكرر يوميات الرجل وتتشابه، لكن فندرز يحرص على إيجاد الفوارق بينها، من خلال فيلم يصوّر هؤلاء الناس الذين لا نعير لهم الإنتباه في حياتنا اليومية، على الرغم من أهميتهم في استمرار دوران الحياة. أما الممثّلة التركية مروى ديزدار التي لعبت دور مدرّسة مبتورة الساق في “فوق الأعشاب الجافة” لنوري بيلغي جيلان، فمنحت جائزة التمثيل النسائي، على الرغم من التنافس القوي مع ساندرا هوللر عن دورها في “تشريح سقوط”، وفق قانون عدم اسناد أكثر من جائزة لفيلم واحد، ان تحصل عليها.
جائزة السيناريو حازها يوجي ساكاموتو عن “وحش” للمخرج الياباني هيروكازو كوريه إيدا، الفائز السابق ب بال”سعفة”. وقد تغيب ساكاموتو عن حفلة الختام فناب عنه المخرج. الفيلم عن علاقة بين طالبين تجري فصولها في قرية يابانية تشهد أحداثاً غامضة. انجذاب تلميذين يخرجان عن المألوف، أحدهما نحو الآخر، هو الحكاية المركزية التي يبني عليها المخرج فيلمه، بأسلوبه المعتاد في نقل التجربة الإنسانية.
أخيراً، كانت جائزة “الكاميرا الذهبية” التي تكرم أفضل عمل أول في كل الأقسام (ترأستها هذا العام الممثلة أناييس دوموستييه) من نصيب المخرج الفيتنامي تيان أن فام عن “داخل الشرنقة الصفراء”، باكورة أعماله الروائية الطويلة (ثلاث ساعات) التي تحملنا إلى جبال فيتنام من خلال رحلة يقوم بها شاب لإيصال جثة اخت زوجته إلى مسقطها. عمل بديع يُعد واحداً من أبرز اكتشافات هذه الدورة التي شغلت وسط السينما اسبوعين متتاليين، ولن تنتهي أفعالها مع حفلة الختام، بل ستكون فاتحة للحديث عن أبرز الاتجاهات في السينما الحالية.