الحاجة اللبنانية إلى إحياء بروتوكول 1861 نصوصا ودولا
بقلم: طوني فرنسيس

"محور الممانعة" سيحاول حتى النهاية فرض رئيس للجمهورية بغياب تام لمنطق التسوية وروحية الطائف

النشرة الدولية –

تكمن صعوبة التسوية في لبنان في وجود تنظيم مسلح يرتبط عضوياً بمشروع إقليمي تقوده إيران، يتخذ لنفسه اسماً ملائماً لكل مرحلة. أساسه وجوهره “ثورة إسلامية” وصار في الآونة الراهنة “محور الممانعة والمقاومة” لدحر إسرائيل وإزالة الوجود الأميركي من غرب آسيا.

في معادلة من هذا النوع تزداد صعوبة محاولات التواصل والمساومة لإيجاد حلول وسطى، ولا تعود الأسس المعتمدة تقليدياً في النظام السياسي اللبناني، من انتخابات ضمن مهل دستورية محددة وبحسب ما تمليه القواعد الديمقراطية ذات شأن، فيحل محلها أسلوب الفرض بالقوة في ما يشبه ترجمة لبنانية لمهمات هيئة تشخيص مصلحة النظام الإيرانية وهيئة صيانة الدستور التي تحدد سلفاً من يحق له الترشح إلى المناصب القيادية في إيران.

شخّص “حزب الله” مصلحة لبنان انطلاقاً من مصلحته وحاجات منطلقاته المذهبية والإيرانية، فرأى أنه يجب أن يكون البلد منصة لـ”المقاومة” ورأس جسر للمشروع الإيراني في صراعه ومساوماته مع الغرب. ومنذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، عمل لبسط نفوذه على الدولة اللبنانية، منشئاً جيشاً رديفاً يفرض سياساته على الدولة بمعزل عن هيئاتها الدستورية المنتخبة، يخوض حروباً في الخارج ويمارس سطوة مسلحة في الداخل لضمان هيمنته واستمرار مشروعه.

يستفيد الحزب من آليات عمل النظام السياسي، هي نفسها التي يكسرها ساعة يريد. وضع يده على رئاسة مجلس النواب وتحكم بتشكيل الحكومات منذ اتفاق الدوحة عام 2008 وحرص على تعيين موالين في إدارات الدولة الأساسية. باتت عمليات التعيين في المناصب الكبرى تحتاج إلى موافقته، فإذا رفض يصرف النظر عن الشخص المقترح. حصل ذلك في المؤسسات الأمنية والقضائية والإدارية كافة، إذا كان المنصب لا يعود للطائفة الشيعية، أما إذا كان من حصتها، فالقرار يعود له وحده بالاتفاق مع شريكه في زعامة الطائفة، رئيس المجلس النيابي نبيه بري.

لا تعود سطوة الحزب الممول من إيران لسلاحه وقدراته القمعية فقط، بل لطبيعة النظام اللبناني نفسه الذي يحمل في بنيته كل وسائل شلّه وتعطيله. يمكن إعادة جذور النظام القائم إلى بروتوكول متصرفية جبل لبنان الذي تم التوقيع على صيغته فى مثل هذه الأيام قبل 162 سنة في التاسع من يونيو (حزيران) 1861.

اقتضى إيجاد صيغة حكم لجبل لبنان بعد المجازر الطائفية في ذلك الحين، تدخل خمس دول أوروبية إلى جانب السلطنة العثمانية لتحديد من يحكم جبل لبنان، نظاماً ومواصفات وأشخاصاً وممارسة للحكم. كانت مجالس الإدارة التي تعاون المتصرف وأعضاء المحاكم وقضاة الصلح يعيّنون من قبل رؤساء طوائفهم وتنصبهم الحكومة. لم يتغير شيء على مدى أكثر من قرن ونصف القرن. بقي نظام الحكم قائماً على جوهر اتفاق 1861، على رغم زوال إمبراطوريات شاركت في صنعه، بينها الإمبراطوريات العثمانية والنمسوية والروسية، وانتقال لبنان إلى عهدة الانتداب الفرنسي ثم إلى الاستقلال وتحوله منذ 1920 إلى دولة لبنان الكبير بدلاً من البقاء متصرفية جبلية.

كان التفاهم والتسامح وحدهما مفتاحي قدرة البلاد على العيش في استقرار في عهد المتصرفية ثم في بدايات عهد الاستقلال، وتيسّر ذلك نتيجة حضور سياسيين قادة علمتهم التجارب ضرورة تغليب المصلحة الوطنية العليا وحسن صياغة التسويات، وتيارات سياسية تضم في صفوفها عناصر وفئات من مختلف الانتماءات الطائفية والسياسية. وعندما وضع اتفاق الطائف وتم توزيع مواقع النظام وصلاحياتها وعدّل الدستور بناء عليها، كان كبار ممثلي مجلس النواب اللبناني، ومنهم حسين الحسيني وصائب سلام وجورج سعادة وبطرس حرب وغيرهم يعولون على الحس الوطني للسياسيين الذين سيتولون تنفيذ الاتفاق ويقودون البلاد في المرحلة اللاحقة، وليس على التزامه الضيق بالمعنى الطائفي البحت لصيغة النظام. إلا أن آمالهم ضاعت على يد سياسيين تخرجوا في معارك الأحياء الطائفية وواصلوا كـ”أمراء حرب” إدارة شؤون لبنان حتى اليوم.

مع أمثال هؤلاء، انحدر لبنان إلى الحضيض اقتصاداً ومالاً وأمناً ودستوراً وبرزت الميليشيا المتبقية الوحيدة عاملاً محدداً في رسم مسار البلاد. هي ترتأي من سيكون رئيساً له وأية حكومة تناسبه وأي موظف كبير يلائمه وشرطها الأساسي للإتيان به أن يكون مطواعاً لها فـ”يحمي ظهرها” ويوفر لها الغطاء الشرعي، داخلياً وعربياً ودولياً، فيما تنصرف هي إلى تحويل بلد عربي كان مركزاً حضارياً عالمياً إلى كمين متقدم لمشروع إيراني، يهمها منه موقعه على خط التماس مع العالم العربي ومع الحضور الإسرائيلي والغربي، مما يزيد قيمته التفاوضية في سوق البيع والشراء مع دول العالم. لقد أصبح لبنان في وضعه الراهن رهينة أخرى تنتظر مبادلتها كما جرى أخيراً في مسلسل المحتجزين الغربيين في إيران.

يشي تمسك الفريق الذي يقوده “حزب الله” بمرشح وحيد لرئاسة الجمهورية وسعيه إلى رفض أي ترشيحات أخرى بعزم هذا الفريق على تكرار تجربة تعيين الرئيس السابق ميشال عون عبر منع الحلول الوسطية بالاتفاق على مرشح إنقاذ يحظى بإجماع واسع، أو بمنع الانتخاب نفسه إذا لم تكن نتيجته مضمونة لمصلحته.

يستعمل الفريق المذكور السلاح اللامؤسساتي في نهجه هذا، فهو، في غياب الروح الوطنية التي راهن عليها موقعو اتفاق الطائف، يلجأ إلى سلاحين لمنع انتخاب من لا يريده رئيساً، الأول إمساكه برئاسة مجلس النواب التي تتحكم بالدعوة إلى جلسات الانتخاب، والثاني الاحتماء بالميثاقية لتعطيل أي جلسة انتخابية بالقول إن طائفة أساسية في لبنان تعارض انتخاب رئيس لا توافق عليه.

إنه مأزق وصل إليه لبنان بفعل شهية الميليشيا الطائفية وارتباطاتها الإقليمية، وليس الحديث بعد اليوم عن ضرورة تدخل مجموعة الدول الخمس، وربما عن تسويات دولية إقليمية، أمراً مستهجناً أو خيالياً، فلبنان صاحب التجربة الديمقراطية المتميزة في الشرق الأوسط قد يحتاج فعلاً إلى إعادة إحياء بروتوكول 1861 بدوله ونصوصه. إنه على ما قال مترنيخ يوماً “بلد صغير في حجمه، كبير في أهميته”، والصراع الدائر في شأنه اليوم دليل على أهمية هذا الوطن الصغير وصحة ما ذهب إليه ثعلب السياسة الأوروبية في القرن الـ19.

 

زر الذهاب إلى الأعلى