تحديات “ماكرون الثاني” أبعد من عنف الضواحي
بقلم: رفيق خوري
ليس من المفاجآت أن تستعيد أحزاب اليمين واليسار مكانتها في فرنسا بوجوه جديدة
النشرة الدولية –
لا حدود للنقاش في فرنسا حول ما هو مطلوب لمواجهة المشكلة التي تنفجر عنفاً بشكل دوري في الضواحي، وهي عملياً جزء من المشكلة الأكبر في فرنسا، وأول ما لاحظه محللون هو الفارق بين ضواحي المدن في أميركا وضواحي المدن في فرنسا ومعظم البلدان الأوروبية، فسكان الضواحي البعيدة نسبياً من المدن في أميركا هم نخبة من الطبقتين العليا والمتوسطة، وسكان الضواحي في فرنسا هم في معظمهم من المهاجرين الذين جاؤوا من بلدان كانت مستعمرات فرنسية، وكانوا الجيل الأول الذي خلفه الجيل الثاني والثالث من مواليد فرنسا.
وثاني ما لاحظه اختصاصيون هو الفارق بين حال المهاجرين إلى فرنسا من الجزائر وتونس والمغرب وبعض البلدان الأفريقية، وبين حال المهاجرين إلى بريطانيا من الهند والباكستان، فالتأقلم مع ما يسميه الفرنسيون “قيم الجمهورية” بدا صعباً حتى على الجيل الثالث الذي ولد وتعلم في المدارس الفرنسية، والتأقلم مع المجتمع البريطاني بدا سهلاً على الجيلين الثاني والثالث وحتى على الجيل الأول. في فرنسا كثير من غضب الضواحي وعنفها ومأزق الانشطار بين ثقافتين وهويتين، وفي بريطانيا انسجام وخضوع للقانون وانخراط في المجتمع والأحزاب، بحيث يتولى حالياً رئاسة الحكومة البريطانية رجل من أصل هندي، وعمدة لندن من أصل باكستاني، ورئيس حكومة اسكتلندا من أصل باكستاني.
وحين يقال إن مشكلة سكان الضواحي هي معاناة العنصرية والبطالة والتمييز في المجتمع والعمل، ترد الحكومة الفرنسية بأنها أنفقت أكثر من 30 مليار يورو أخيراً لتحسين الأوضاع والمدارس والبنية التحتية في الضواحي، لكن هذا لا يكفي. في شخص المهاجر كما في الشخصية الفرنسية جذور المشكلة، حرارة الغضب قوية لدى المهاجر، و”الدول وحوش باردة” كما كان يقول الجنرال ديغول، وإلا كيف يمكن أن يمارس سكان الضواحي تخريب المدارس والمخازن وإحراق السيارات والمكتبات، وبينها مكتبة مارسيليا العامة ومكتبة الكاراز المهمتان، وأن يكون الهدوء سمة المهاجرين إلى الولايات المتحدة من الصين واليابان والهند وبقية بلدان آسيا؟
مفهوم أن الشرطة الفرنسية شديدة القسوة على الفرنسيين من أصل غير فرنسي، فحتى الرئيس إيمانويل ماكرون يصف المشهد بأنه عملية “نزع الحضارة” في استعارة لعنوان كتاب اليميني المتطرف رينو كامو، ووزير الداخلية جيرار دارمانان يعترف بأن “فرنسا تتحول إلى الوحشية”، لكن الانسجام في فرنسا يحتاج إلى ما هو أكثر من “عامل ثقافي” يشكل جزءاً من جذور المشكلة، ذلك أن خيار ماكرون كان منذ البدء إجراء تغيير داخلي وأن تلعب فرنسا دوراً مهماً في قيادة أوروبا والعالم، لكن التغيير الداخلي الذي حاوله كان لمصلحة المصارف والأثرياء، وهو ما دفع العمال إلى الشارع.
والطموح إلى دور فرنسي مهم في الخارج اصطدم بالواقع، وكان من المقدر بعدما خسر ماكرون الأكثرية في الجمعية الوطنية أن يضطر إلى أن يلعب في الولاية الثانية دور رئيس خارجي لا داخلي، وما حدث هو أن “ماكرون الثاني” واجه تظاهرات الاعتراض على رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، وغضب الضواحي بعد مقتل الفتى من أصل جزائري نائل المرزوقي برصاص شرطي سير، وكان عليه زيادة الالتفات إلى الداخل وسط طموحاته الخارجية، وهو اختصر برنامجه في الرد على التحديات بالحديث عن “بناء بلد أقوى اقتصادياً وصناعياً أكثر احتراماً لمتطلبات البيئة في توجه نحو نظام اجتماعي أكثر عدلاً”. وليس من السهل تطبيق هذا على يد رئيس لا هو مع اليمين المتطرف الذي يريد التشدد في النظام الأمني، ولا هو مع اليسار المتشدد الذي يطالب بمعالجة جذور الأزمة الاجتماعية في البلد كله لا في الضواحي فقط، ولا هو في يسار أو يمين الوسط.
رئيس بدا ظاهرة في ظروف معينة حيث أضعفت ممارسة السلطة وما فيها من ظلم وفساد ومحسوبية أحزاب اليمين واليسار في الوسط، لكن الظاهرة ليست ثابتة، وممارسة السلطة كشفت عن أن ماكرون في اليمين مع المصارف لا في الوسط، وليس من المفاجآت أن تستعيد أحزاب اليمين واليسار مكانتها بوجوه جديدة، ففرنسا مشهورة بالظواهر التي تصعد فجأة ثم تختفي.