تساؤلات في حديث لوكاشينكو
بقلم: د.سالم الكتبي
النشرة الدولية –
الجزيرة السعودية –
تحدث رئيس بيلا روسيا الكسندر لوكاشينكو مؤخراً إلى مجموعة من الصحفيين، دعيت إلى قصر الاستقلال في مينسك لمقابلة الرئيس وإجراء «حوار» معه، وكان حديث لوكاشينكو وإجاباته على تساؤلات الصحفيين مثيرة للاهتمام، وتطرح العديد من علامات الاستفهام، وتفرز – بالقدر ذاته – استنتاجات عدة.
في مقدمة الملاحظات التي تلفت انتباهي – كمراقب – في حديث لوكاشينكو، أن المبادرة البيلاروسية الخاصة بدعوة مجموعة قليلة من الصحفيين للقاء الرئيس والتحدث معه هي بحد ذاتها لافتة وتدعو إلى البحث فيما ورائها، ولا سيما بعد الانتهاء من قراءة ما نشر على لسان لوكاشينكو، حيث يبدو أن اللقاء تم إعداده بعناية بالغة، سواء من حيث «الأهداف» المرجوة منه، أو من حيث «الرسائل» التي يراد إرسالها لمن يهمه الأمر في العواصم الغربية تحديداً. واحدة من أهم النقاط التي أثارها الرئيس لوكاشينكو هي أن زعيم «فاغنز» يفغيني بريغوجين، لم ينتقل إلى بيلا روسيا كما قيل عقب انتهاء التمرد، حيث أعلن أن بريغوجين انتقل وبعض مقاتليه إلى بيلا روسيا بموجب وساطة قامت بها بيلاروسيا بينه وبين الكرملين لإنهاء التمرد. الرئيس لوكاشينكو أكد أن مقاتلي «فاغنر» لا يزالون في المخيمات التي انسحبوا إليها عقب خروجهم من باخموت، وأن زعيمهم في «سان بطرسبورغ، أو ربما في مكان آخر، لكنه ليس في بيلا روسيا»، ويؤكد أن الاتفاق/ الوساطة البيلاروسية قيد التنفيذ ولم تتوقف، وهذا يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة من بينها أن «مسرحية» الموضوع كله جارية، وبانتظار مشاهد الإخراج النهائية.
ولأنني لا أريد إضافة المزيد من الغموض على ما جرى في واقعة تمرد «فاغنر»، فإنني أرى أن حديث البيلاروسي ليس عابراً سواء من حيث التوقيت أو الرسائل التي حملها، ومحاولته إضفاء الغموض على مكان زعيم «فاغنر» هو محاولة مقصودة، والسيناريو يجري تنفيذه وفق ما تم التخطيط له مسبقاً، ولوكاشينكو يعرف ذلك جيداً، كونه أحد أطراف العملية برمتها. لوكاشينكو قال أيضاً جملة مهمة للغاية «اعتقد أنه لم يخرج أحد من ذلك الموقف (التمرد) بطلاً»، وذلك تعليقاً على سؤال حول ما ذكرته القناة الروسية الرسمية من أن الرئيس فلاديمير بوتين «خرج بطلاً» من الأحداث الأخيرة، وهي جملة ربما تكون «حمّالة أوجه»، ولكنها باعتقادي مقصودة تماماً، وقد تكون جزءاً من الإخراج المخطط له للأحداث، على الأقل لجهة تشويش الغرب واثارة الارتباك، ولا سيما أن لوكاشينكو، الحليف المقرب لبوتين، والذي وصفه خلال اللقاء ذاته بـ»أخي الرئيس بوتين»، لن يغامر بأي كلام قد يغضب حليفه و»أخيه»، بإثارة الشكوك حول ضعفه المحتمل سياسياً، لذا فإن الأقرب للتصور هو أنه يتحدث بموجب دوره المفترض في إخراج أحداث التمرد.
لوكاشينكو قال أيضاً «لا بريغوجين ولا بوتين ولا لوكاشينكو. لم يكن هناك أبطال. والدرس مما حدث؟ إن أنشأنا مجموعات مسلحة كهذه، علينا أن نراقبها وأن نبدي اهتماماً جاداً بشأنها»، وهو هنا يضع نفسه في قلب الحدث والشخصيات الرئيسية المنوط بها التعامل مع التمرد، وقد يكون ذلك من باب توقير حليفه وعدم التقليل من شأنه، والمزاوجة بين تحقيق الهدف الإستراتيجي المرجو من الحديث والحفاظ على هيبة الرئيس بوتين وصورته أمام الجميع.
حديث لوكاشينكو يصعب تفسيره بشكل قطعي ويطرح أسئلة أكثر مما يقدم من ردود، وبالتالي فإن الفصل الأخير من قصة تمرد «فاغنر» لم تكتب بعد، ولكن المؤكد أن زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين قد لا يكون الضحية الوحيدة للتمرد، لأن تلميحات لوكاشينكو عن رقابة المجموعات المسلحة التي تملوها الحكومات قد تنطوي على تحميل المسؤولية لأطراف آخرين داخل النظام الروسي، ليس من بينهم بطبيعة الحال الرئيس بوتين.
في أغلب الأحوال، فإن يفغيني بريغوجين سيدفع ثمن التمرد سواء تم باتفاق مع الكرملين أو كان تمرداً حقيقياً، وفي جميع الأحوال ستبقى «فاغنر»، ولن يتم تدميرها، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيوظف ما حدث في إحكام قبضته على السلطة، والتخلص من منتقديه أو من يشكك في ولائهم أو قدرتهم على تحقيق أهدافه، ومن بينها تحقيق انتصار حاسم في حرب أوكرانيا، ولا يجب أن ننسى صداقة بوتين مع بريغوجين، والثقة المتراكمة بين الرجلين، وتأكيد زعيم «فاغنر» بعد التمرد أنه لم يقصد الرئيس بوتين حين أراد الزحف إلى موسكو، وأنه كان يسعى «لمحاسبة المسؤولين الذي ارتكبوا من خلال أفعالهم غير المهنية عدداً هائلاً من الأخطاء» في حرب أوكرانيا. وبالنظر إلى ما حققته قوات «فاغنر» من انتصارات ونجاحات في «باخوم» ومدن أوكرانية أخرى رغم محدودية تسليحها، فإن تشكيك بريغوجين في كفاءة كبار القادة الروس قد يكون له مكان ما في تفكير القيادة الروسية.
إسدال الستار على «فاغنر» لم يحدث على الأرجح، ويبقى مصير زعيمها يفغيني بريغوجين من أسرار عملية التمرد، كما أن الكواليس التي دارت خلال 24 ساعة هي عمر التمرد، يصعب الكشف عنها الآن أو لاحقاً، كونها باتت من أدق أسرار الدولة الروسية، لكنها في مجمل الأحوال ليست بالصورة التي فهمها البعض شرقاً وغرباً من أن قوة عسكرية متمردة قوامها نحو 25 ألف شخص كانت على وشك اقتحام الكرملين!