التاريخ يكرّر نفسه في رواية سبيطة الأيام قبل الأخيرة للكاتب المقدسي عبدالله دعيس
النشرة الدولية – روز اليوسف شعبان –
التاريخ يكرّر نفسه في رواية سبيطة الأيام قبل الأخيرة للكاتب المقدسي عبدالله دعيس
تقع الرواية في 230 صفحة من القطع المتوسط ، إصدار مكتبة كل شيء حيفا (2023).
سبيطة بلدة تقع في صحراء جنوب فلسطين، بناها العرب الأنباط، فهي إحدى المدن الست التي كانت تقع على طريق البخور في القرن التاسع أو العاشر، حيث كانت تتوقف فيها القوافل ثم تتجه إلى مصر أو إلى الميناء في غزة. ص 7-8.
يستحضر الكاتب تاريخ بلدة سبيطة قبل ألف عام من خلال شخصية عيسى الذي جعله مجنونا ، لكنه ينطق بالحكمة والعقل، فيتراءى لنا التاريخ مثقلا بالقتل والدمار والفتنة وحب السيادة والملك والسلطة، فالحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي السادس الذي حكم في مصر من 996 م إلى 1021م، أعمل في بلاد المسلمين الدمار وزرع الفتنة بين الطوائف، وأهدى المال والذهب لابن سلمة وهو من سكان سبيطة وأعطاه ثلاثة من رجاله فزرعوا الفتنة في المدينة الوادعة التي كانت تنعم بالاستقرار وحياة التجارة والايمان والتآخي بين الطوائف، فقد قتل الملوخي وابن سلمة بشارة بن جريس ورموا جثته أمام المسجد، فرآها عيسى وهم بانتزاع الخنجر من ظهره؛ علّه يعود للحياة؛ فرآه الشيخ نور الدين واتهمه بالقتل، وتم سجنه وأجبره الملوخي أن يعترف زورا، أن من قتل بشارة هو الشيخ حسن، فالقي القبض على الشيخ حسن وعشرة أشخاص آخرين وتم إعدامهم، وهجم المسيحيون على المسلمين حرقوا بيوتهم واندلع الشجار بين الطرفين.:” يقولون أطلت الفتنة برأسها، لكن الفتنة في سبيطة قفزت عن أسوارها تمتطي صهوة حصان أسود جسيم، وجاست في أزقتها تنفث سموم الحقد والكراهية، وتذكي نيران الحرب” ص 52.
كما أهدى الحاكم بأمر الله المال للأب حنا الذي أعماه المال، فرفض مساعدة باقي الكنائس أو مد يد العون للمحتاجين، أما الشيخ نور الدين فقد أهداه الحاكم بأمر الله الجارية هيفاء وكانت بالغة الجمال، فانقلب عن دينه وتبع ابن سلمة ورجل الشرطة الملوخيّ، وصار يدعو للحاكم بأمر الله في خطبة الجمعة. أما ابن سلمة فقد استأثر بالحكم، وحكم بالظلم واستأثر بالتجارة والقوافل؛ فازداد غنى في حين خسر تجار سبيطة تجارتهم ، وساءت أحوالهم، وانتشر الفقر والجوع بين السكان، ولما كانت للشيخ نور الدين فتاة جميلة اسمها شيماء، أراد ابن سلمة الزواج بها ووافق الشيخ عليه رغم معرفته بفساده وظلمه، وكانت شيماء تحب الاستاذ حسن معلم الصبيان وكان يطلق عليه لقب الشيخ، ولما جاء الشيخ حسن لخطبتها رفضه الشيخ نور الدين.
بعد أن ساءت أحوال لبلاد؛ بدأ الناس بالثورة التي قادها جريس بن سمعان، بعد أن نجح في العثور وهو وعيسى على شيماء التي كانت مختفية في بيت حنينا لدى عائلة كريمة، فعادت شيماء معهما لتروي للناس الحقيقة وبأن ابن سلمة باعها جارية وأبعدها عن الشيخ حسن حتى يقتله.
أطاح الناس بحكم ابن سلمة وعينوا جريس مكانه، وأمل الناس بعودة البلاد الى عزّها وغناها واستقبال قوافل التجار فيها، لكن الملوخي بقي مع جريس وكذلك لؤلؤة الذي كان يروي القصص الخيالية عن سبيطة وحكامها ويشيد بحاكمها.
ازداد غنى جريس واستأثر بالتجارة، وتنكّر للناس وعاقب كل من انتقده؛ بالسجن واغلاق بيته؛ خفّت التجارة وعانى الشعب من الذل والفقر، وقام نحّاتون بنحت تمثال على شكل جريس وصار الناس يسجدون له، ثم أشعل جريس الفتنة مرة أخرى حين أعلن أن من قتل بشارة هو الشيخ نور الدين؛ فاعتقله وزج به في السجن، وقام رجال من المسيحيين بالاعتداء على المسجد وهكذا عاد الناس الى القتال الطائفي.
ثم هرب جريس بعد أن توعده الحاكم بأمر الله، وعاث الناس في البلاد فسادا .
تنتهي الرواية حين وجد عيسى نفسه على الحاجز ، وجندي اسرائيلي يطلب منه بطاقة الهوية ، ويتّهمه بدخول البلاد دون اذن، وبمخالفة قوانين الحجر الصحي في فترة الكورونا، فيفتح هاتفه النقال وتتراءى صور سبيطة أمام ناظريه، ثم يجد نفسه في السجن الاسرائيلي وسياط الجنود تهوي على جسده.
إن قارئ هذه الرواية الشائقة يجد نفسه يقرأ تاريخ الأمة العربية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، وما بلدة سبيطة إلا صورة مصغّرة للعالم العربي قديما وحديثا، فالتاريخ يكرّر نفسه في سبيطة وفي غيرها من البلاد العربيةـ حيث يستأثر الحكّام بالسلطة والجاه، فيزدادون ثراء في حين يعاني الشعب من الذلّ والفقر والجوع، فلا عدل ولا مساواة ولا قوانين تنصف المظلومين، وحتى بعد الثورة، يتغيّر الحكّام شكلا لكنهم يبقون نفس الحكام الظالمين الذين لا يحترمون شعوبهم ولا يسعون من أجل رفاهيتهم بل بالعكس تماما، يقومون بإذلالهم واضطهادهم وتعذيبهم.
جعل الكاتب بطل الرواية عيسى مجنونا؛ حتى يجعله ينطق بالحقيقة ، وينتقد الظلم دون أن يحاسبه أحد بسبب جنونه. يتساءل عيسى:” كيف للظلمة أن يستأثروا بالأموال ثم يفروا ليتمتعوا بها بأمان، بينما يصطلي الضعفاء بنيران الظلم ولا ينالهم حظ ولا نصيب، وكلما تسلط أحد تسلّق على سلم ضعفهم ثم ركل السلم بقدمه وألقاه في هاوية بعيدة، هل خلق هذا العالم ليكون جنّة الدهاة ونار الطيّبين؟ وأين العدل الذي وعدنا به الشيوخ من أعلى منابرهم والقسيسون من أمام مذابحهم” ص 183.
وحين سألت شيماء عيسى:” ما الذي يجلب الخراب ويسلّط الظالمين على رقاب العباد يا عيسى؟
أجابها:” عندما تختلف قلوبنا، فنصبح سوطا في يد المستبد يضرب بنا من يخالفه منا” ص 196.
وفي موقع آخر في الرواية يتساءل عيسى:” لماذا يكون الخيار دائما بين كرسي الحكم والدمار؟ لماذا يتشبث الحكام بالكرسي ولا يكترثون بالخراب الذي يحل بالديار؟ ” ص 203.
كيف لعاقل يرى التراب مصيره ثم يتجبّر في الأرض” ص 213.
فهل يغير الكرسي الرجال، أم نحن من نتغيّر أمام الرجال حينما يعتلونها؟ ص 138 وهل يرفع كرسي الحكم صاحبه فيترفّع عن رعيته، أم أن الرعية تطأطئ الرؤوس أمامه وتصنع منه جبارا عنيدا؟” ص 138.
يطرح الكاتب في هذه الرواية الخيالية الشائقة عدّة مواضيع هامّة:
- منها تسلّط الحكام واستبدادهم وظلمهم للشعوب، وزرع الفتنة بين الشعب حتى يسود الحاكم على الجميع( سياسة فرّق تسد)،
- انجرار الناس وراء الاشاعات وتصديقهم لكل ما يقول الحاكم
- الجهل الذي يطبق على الناس فيجعلهم يجلسون في مجلس لؤلؤة الذي يسرد عليهم الأساطير الخرافية ويربطها بالواقع ، فيشيد بالحاكم وعدله فيهلّل الناس معه للحاكم المستبد.
- المال والجاه والسلطة التي تعمي القلوب والعقول والنفوس فتجعل الكثيرين يحيدون عن الحق ويعبدون المال بدلا من عبادتهم لله.
- ضياع العدل في هذا العالم
- الانصياع الأعمى خلف الحاكم دون منطق
- الانجرار خلف الطائفية التي تدمّر الشعوب
- الربيع الزائف الذي حلّ في البلاد العربية ويتساءل الكاتب: هل سيأتي ربيع جديد؟ ص 142.
- انهيار القدوة ، فاذا انهارت القدوة انهار الوطن وعن ذلك يقول عيسى:” ما أقسى أن تنهار قدوتك أمام عينيك وتتحطم! تحاول لم فتاتهاـ لكنها تنهار من جديد، هذا أبونا حنا الذي كان مثلي الأعلى، وذاك الشيخ نور الدين الذي أظلني بالرعاية والحب وآواني، هما العملاقان ينهاران أمام ناظريّ” ص 77.
- انجرار الناس وراء رجال الدين دون تفكير ووعي، فهرع الناس الى بيت المقدس لتصديقهم الاشاعة ان الساعة ستقوم( في الالف الأول للميلاد)، وما أن تبخّرت هذه الاشاعة حتى عاد الناس الى الفساد والظلم والشهوات.
السرد في الرواية:
تميّز السرد بالرواية بما يسمى”الرؤية مع”، أو الرؤية المصاحبة “: وهي رؤية سرديّة كثيرة الاستخدام، إذ يُعرض العالم التخييليّ من منظور ذاتيّ وداخليّ لشخصيّة روائيّة بِعينها، من دون أن يكون له وجود موضوعيّ ومحايد خارج وعيها. إنّ السارد في هذه الرؤية، على الرغم من كونه قد يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات، إلّا أنّه لا يقدّم لنا أيّ تفسير للأحداث قبل أن تصل الشخصيّات ذاتها إليه. تُحكى الروايات التي من هذا النوع بضمير المتكلم، وبذلك تتطابق شخصيّة السارد مع الشخصيّة الروائيّة(.بوطيّب، 1993، ص. 72-73.)ويستخدم السرد في هذه الرؤية ضميرَي المتكلّم أو الغائب، مع المحافظة على تساوي المعرفة بين السارد والشخصيّة(شبيب، 2013، ص. 117.)
استخدم الكاتب في سرده تقنيات الحداثة مثل: المونولوج والمناجاة، الاسترجاع، الأحلام والكوابيس، المونتاج الزمانيّ والمونتاج المكانيّ، تنوُّع الشخصيّات، وسيطرة الراوي بضمير المتكلّم (الأنا). وقد رويت أحداث الرواية بلسان بطل الرواية عيسى، بلغة جميلة تستند على التناص والتراث الشعبي والموروث الثقافي للأمة العربية، وقد جعله الكاتب كما ذكرنا آنفا، مجنونا، يطوف بين البيوت والأسواق والمقاهي والمعابد، ومجالس السهر يصغي الى الحكايات ويربطها معا لتشكل في وعيه حكاية شعب لا زال يعاني من نير حكامه حتى يومنا هذا. لنكتشف في نهاية الرواية أن الراوي المجنون هو العاقل الحقيقيّ الذي يزن الأمور ويثير الأسئلة المنطقيّة ويتفوّه بالحكم، فالقرن التاسع وقرننا الحالي لا يختلفان، فالصراعات على السلطة والطائفية هي ذاتها.
المثير في الرواية أيضا، تلك الأسئلة المحيّرة التي طرحها الكاتب على لسان عيسى، والتي تستفز تفكيرنا فتجعلنا نتماهى معها ونضيف عليها : لماذا لا يحكم الحكام بالعدل وهم سيقفون يوما أمام الله العادل؟ هل حقا المدينة الفاضلة موجودة فقط في عقول الفلاسفة؟ كيف نجعل شعوبنا أكثر إيمانا وتماسكا ومحبة؟ كيف نقود ثورة أو ربيعا يمحو الظلم ويحقق العدل والمساواة للشعب؟ وهل جميع رجال الدين تفتنهم الشهوة ويغرهم المال؛ فيبيعون دينهم وضمائرهم ويتبعون أهواءهم وأهواء الحاكم؟ وكيف يميّز الناس بين رجل الدين التقي ورجل الدين المنافق؟ ألا يجب فصل سلطة الدين عن الحكم حتى يتسنى لها أن تطبق شرع الله بكل عدل وايمان؟
وهل شيماء الجميلة التقية هي الحلم العربي الذي مات؟ وهل هناك عودة لشيماء أخرى قد تشارك في قيادة الثورة ضد الظلم كما شاركت شيماء سبيطة مع عيسى في الثورة ضد ابن سلمة؟
وأخيرا مبارك للكاتب المقدسي عبدالله دعيس هذه الرواية المثيرة، والتي من خلالها سلّط الضوء على بلدة سبيطة التي كانت مجهولة للكثيريبن منا، فاستحضر تاريخها بفانتازيا مذهلة.