لبنان بلد الأقليات الطائفية المتشاركة فهل يحتمل التقسيم؟
بقلم: سوسن مهنا
النشرة الدولية –
يرى البعض، أن موضوع الفيدرالية أو إعادة النظر بتركيبة النظام الحالية، أو “أمن المناطق”، أو “الانفصال” وصولاً إلى الطلاق، أو أي صيغة من صيغ تغيير النظام الذي تأسس عليها “لبنان الحديث” منذ 1920، وليدة الأزمات التي يعيشها لبنان.
لكن بذرة فكرة التقسيم برزت منذ عهد المتصرفية في عهد الإمبراطورية العثمانية، حيث جرى اعتماد التوزيع الطائفي للسلطة، منذ إنشاء منطقة جبل لبنان الإدارية خلال القرن التاسع عشر، باعتبارها نواة لبنان الحديث.
وعلى غرار التسوية التي اعتُمدت في وقت سابق لإنهاء الصراع عام 1840، فقد تبنّى نظام الحكم الذي استحدث بعد الحرب الأهلية في جبل لبنان عام 1860، (المتصرفية)، الطوائف الدينية المختلفة باعتبارها أطرافاً سياسية فاعلة. وفي مرحلة ما بعد عام 1860، وتحت سلطة الوالي العثماني المسيحي غير العربي المعروف باسم المُتصرف، (وفقاً لدراسة “تفكّك اتفاق الطائف في لبنان: حدود تقاسم السلطة على أساس الطائفة” للباحث جوزيف باحوط)، أنشئ مجلس إداري خُصِّصت فيه مقاعد للطوائف الدينية الست الرئيسة في جبل لبنان، بما يتناسب مع الأعداد الإجمالية لأفرادها.
اللافت هنا أن تقاسم السلطة في مرحلة ما بعد عام 1860 وصيغة الحكم المحلي أعقبا النزاع الذي وضع الدروز في مواجهة الموارنة، وهما الطائفتان الرئيستان في منطقة جبل لبنان التي تمتعت بحكم شبه ذاتي. وبعد أن أعلنت فرنسا عن قيام لبنان الكبير عام 1920 وضمت إلى جبل لبنان ذات الغالبية المسيحية والدرزية، مدينة بيروت وكانت حينها ذات غالبية مسيحية أرثوذكسية، وطرابلس وصيدا وصور، وكان معظمها من السنّة، وجرى تقاسم السلطة على أساس طائفي. ووفقاً لذلك النظام وزعت المناصب في الدولة على الطوائف الدينية الثمانية عشر المعترف بها رسمياً ويمثلها أعضاء في مجلس النواب اللبناني حالياً.
لبنان “بلد لأقليات طائفية متشاركة”
كان لا بد من خلق نظام سياسي يتناسب مع هذا الموزاييك الطائفي، فجرى اعتماد ما يعرف بـ “الديمقراطية التوافقية”، وفي كتابه “أنماط الديمقراطية” يعرض أستاذ العلوم السياسية والمتخصِّص في السياسة المقارنة، أرند ليبهارت، أن الديمقراطيات التوافقية تظهر في المجتمعات المنقسمة على نفسها بسبب الوضع الإثني أو الديني والطائفي أو اللغوي. وهي وسيلة تلجأ لها النخب المختلفة للتوصل إلى صيغة تعايش بين مكونات المجتمع.
وهكذا ولدت الجمهورية اللبنانية الأولى التي كانت مثالاً للعيش المشترك، وعن هذا يقول واضع دستور استقلال لبنان عام 1926 المفكر ميشال شيحا، “لبنان بلد لأقليات طائفية متشاركة”. أنهت الحرب الأهلية “الميثاق اللبناني” غير المكتوب، الذي اتفق عليه عام 1943، بين أول رئيسي للجمهورية والوزراء بعد الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح، والذي قام على أساس الحياد، أي “لا شرق ولا غرب”، أي لا وحدة مع سوريا ولا لحماية فرنسا، والذي نعى فيه الوزير والصحافي السابق جورج نقّاش، في مقاله الشهير “سلبيتان لا تصنعان أمة”، لبنان بمسلميه ومسيحييه الذين لم يتمكنوا من الاتفاق يوماً على مفهوم للوطن الواحد، كان ذلك في شهر مارس (آذار) 1949.
حرب أهلية أو انقسام عقائدي؟
في دراسة نشرت على موقع http://E.International Relations البريطاني، بعنوان “شبح الصراع: تشكيل الطائفية اللبنانية وسياسات الهوية”، تفيد بأنه لدى تشكيل الجمهورية العربية المتحدة (وهو الاسم الرسمي للوحدة بين مصر وسوريا) عام 1958، أرادت العناصر الدرزية والسنية الانضمام إلى الجمهورية سعياً وراء الطموحات القومية العربية التي وضعها جمال عبد الناصر، بينما عارض المسيحيون والرئيس كميل شمعون في ذلك الوقت، وتلقوا المساعدة من سلاح مشاة البحرية الأميركية لإعادة الوضع القائم. سرعان ما جرت مشاركة الجهات الأجنبية في لبنان المُجزأ إلى صراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
مرةً أخرى، سيؤيّد السنة والدروز “منظمة التحرير الفلسطينية” من خلال فصيلها اللبناني “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن قوبل ذلك بمعارضة من قبل المسيحيين والشيعة. ونتيجة لذلك، استخدم المسيحيون الموارنة التنظيم شبه العسكري المعروف باسم حزب “الكتائب اللبنانية” والذي ساعد في اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 من خلال هجمات ضد فصيل “منظمة التحرير الفلسطينية”، وقد رعت هذه الهجمات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، بعد أن سلمت الأسلحة إلى حزب “الكتائب اللبنانية” في أوائل السبعينيات من القرن العشرين.
“تصنف بريطانيا حزب الله منظمة إرهابية” (أ ف ب)
كانت رسالة حزب “الكتائب” المتناقضة هي استبعاد النفوذ العربي والسوري في لبنان، لكنها قبلت التدخل السوري عام 1976. وفي الوقت نفسه، هاجم الحزب إياه ميليشيات مسيحية أخرى -مثل طوني فرنجية وهو سياسي بارز أسس “ميليشيات المردة”، مما يدل على أن الصراع كان خارج القضايا الدينية والذي يدعم مفهوم أن الطائفية لها أشكال مختلفة، ومع ذلك، فعلى رغم أن حزب “الكتائب” سمح لسوريا بالتدخل عام 1976، فقد دعم عملية “الليطاني” الإسرائيلية، أو حرب جنوب لبنان 1978 وهو اسم الحملة العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي على جنوب لبنان واحتل خلالها الأراضي اللبنانية حتى نهر الليطاني، بهدف القضاء على عناصر منظمة التحرير. يؤكد هذا الأمر شيئين: أولاً وقبل كل شيء، الحفاظ على الطائفية بسبب افتراضات “الجذور التاريخية”، ومع ذلك لم يكن الأمر مجرد تقسيم ديني لأن مشاركة الجهات الفاعلة المتعددة تظهر أن البراغماتية، والتي تقوم على أن الأثر العملي هو المُحدِّد الأساسي في صدق المعرفة وصحة الاعتقاد بالحياة الاجتماعية للناس، غالباً ما تسود لتحقيق مكاسب سياسية إضافية، وثانياً، تُظهر هوية وسلوك الجهات الفاعلة المحلية انقسام المجتمع اللبناني، إضافة إلى نمط التغيير الآخذ في التطور والتغيّر، حيث تتشكل مصالح الجهات الفاعلة باستمرار. ويؤكد هذا مدى ضعف الدولة اللبنانية، وكذلك يوضح أن التقارير البدائية أقل شأناً من التحليلات الذرائعية وما بعد الثقافية. وفقاً لدراسة الموقع.
“ارتكب لبنان خطأً فادحاً بالحفاظ على النظام الطائفي وفكرة المحاصصة في المناصب” (أ ف ب)
اتفاق الطائف – الجمهورية الثانية
وبعد الغزو الإسرائيلي الثاني، دخل لبنان حالة حرب في الفترة 1983-1990، حيث قادت القوات الخارجية المشهد. وأدى التهميش السياسي المستمر والإقصاء الاقتصادي للمجتمع الشيعي إلى تغذية المتطرفين من الشيعة وأدى إلى ظهور عناصر جديدة وهي منظمة “حزب الله” المؤيدة لإيران وهو ما ذكره العديد من المؤرخين والمحللين بمن فيهم جون لافين وماكس فايس وباسل صلوخ. وقد تم ضمان موقفها المؤيد لإيران بسبب الدعم المقدم من طهران، لكن لم يكن بوسع الدولة السيطرة على جميع جوانب المنظمة. ولذلك، فإن تورط القوى الفاعلة من غير الدول وزيادة صلاحيتها تؤكد أنها ميراث للطائفية الاستعمارية متحولة عن الصراع التقليدي بين الدول.
أدى التدخل الخارجي المستمر، وكذلك التحديات الداخلية من عام 1983 فصاعداً إلى تحويل الدولة اللبنانية. ومع وجود العديد من الكيانات التي انخرطت في الحرب الأهلية، فقدت الدولة احتكار العنف المشروع. بحلول عام 1984، كان الجيش الذي تسيطر عليه الحكومة عاجزاً، في حين اغتيل الرئيس المنتخب بشير الجميل، ودمر “حزب الله” السفارة الأميركية في بيروت عام 1983، فشلت الانتخابات في انتخاب رئيس دولة عام 1988، وأدت إلى حدوث تنافس سياسي في مناطق أخرى.
كان الرد على عدم الاستقرار هو “اتفاق الطائف” عام 1989، الذي دخل حيز التنفيذ عام 1990. كانت هذه الوثيقة أكثر من مجرد استجابة للتنافس السياسي، فقد دعت إلى إعادة هيكلة الطائفية في لبنان بمشاركة دولية. وأبقت على الرئيس الماروني لكنه خضع لحق نقض “فيتو” سُنِّي، وكان على مجلس النواب أن ينقسم بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. كانت هذه محاولة للتأكيد على هوية عربية موحدة، لكن كل ما حققته بالفعل هو ضمان الهيمنة الأجنبية في لبنان.
على سبيل المثال، أعطيت سوريا “علاقة خاصة” مع لبنان وسمح لها بالتدخل في مسائل الأمن القومي، ودائماً وفقاً لدراسة الموقع البريطاني. وكان أن أعلن اتفاق الطائف 1989 عن ولادة الجمهورية الثانية، وعليه انتهت الصيغة الثنائية موارنة -سُنّة، مقابل الترويكا موارنة – سُنّة – شيعة.
“التقسيم هو الحل”
واعتبر تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية نشر في 18 سبتمبر (أيلول) 2020 بعنوان “التقسيم هو الحل لكل مصائب لبنان”، أن لبنان ارتكب خطأً فادحاً بالحفاظ على النظام الطائفي وفكرة المحاصصة في المناصب، لأنه بمرور الوقت، سيطر “حزب الله” الموالي لإيران على الدولة، وحرمت هيمنته على مفاصل الدولة اللبنانيين من غير الشيعة من حقوقهم، مؤكدة أنه حان الوقت لإعادة النظر في هذا النظام والاعتماد على نظام الحكم الفيدرالي.
وفي أعقاب انتخابات 2018، ونجاح تحالف “حزب الله” والرئيس اللبناني السابق ميشال عون، ابتهج الحزب بالنتائج كثيراً، ونشر نشطاء شيعة مقاطع فيديو على موقع “يوتيوب” وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي يثنون على “حزب الله”، ويقولون إن الوقت قد حان لحكم لبنان… تلك التطورات دفعت ببعض اللبنانيين ليتحدثوا عن الفيدرالية كخيار لضمان سلامتهم على المدى الطويل، على رغم عدم وضوح كيفية عمل ذلك في مجتمع طائفي مثل لبنان، بخاصة بعد معارضة “الحزب” لهذه الفكرة.
ويحتل هاشتاغ “الفيدرالية هي الحل”، صفحات رواد مواقع التواصل الاجتماعي. وتمظهر هذا عبر مؤتمر “العقد الجديد من نظام الطائف إلى النظام الفيدرالي”، والذي نظمه ما يعرف باسم “المؤتمر الدائم للفيدرالية”، وعقد في يناير (كانون الثاني) الماضي، ويدعو المؤتمر إلى ضرورة الانتقال إلى نظام يرتكز على الأسس الديموغرافية – الجغرافية حفاظاً على الكيان ومنعاً للتقسيم.
وكان رئيس “القوات” سمير جعجع أعلن، أن استمرار الوضع على ما هو عليه غير مقبول ولا معقول، تماماً كما إمكان التجاوب مع وصول رئيس ممانع نتيجة الأمر الواقع القائم. ودعا لإعادة النظر بهذه التركيبة من دون تردد، من دون تصوير الأمر على أنه انقلاب على اتفاق الطائف الذي لم يطبق منذ 33 سنة”.
وفي مؤتمره الـ 32، أعلن رئيس حزب “الكتائب” سامي الجميل أن “المطلوب تغيير الأسلوب والمساومات والتوحد كعلمانيين وطائفيين… لهذا السبب وانطلاقاً من هنا ومن هذه اللحظة نقول إننا لسنا مستعدين للخضوع لإرادة حزب الله في لبنان، وندعو كل اللبنانيين لتحمل مسؤولياتهم. ونقول للحزب، نحن غير مستعدين للاستمرار بهذا الوضع، وإذا كان المطلوب الطلاق بين الجمهوريتين فليعلنها، ولكن لن نقبل أن نعيش كمواطنين درجة ثانية ولن نخضع، سنبقى هنا وسنواجه جميعاً مع بعضنا البعض”.
في المقابل، قال رئيس التيار “الوطني الحر” جبران باسيل، وفي رد منه على حليفه “حزب الله” لمشاركته في جلسة حكومة تصريف الأعمال، “مش ماشي الحال أبداً، ويجب البدء جدّياً باللامركزية الموسعة، إن لم يكن بالقانون بعد 30 سنة من الطائف، نبدأها على الأرض”.
وفي هذا الصدد، دائماً ما راودت طائفة الدروز من جبال لبنان إلى مناطق الدروز في سوريا، أفكار وخيالات الانخراط في الأمن الذاتي والبقاء على الحياد في الوقت نفسه، أو تطلعوا إلى إنشاء مناطق عازلة فعلية تضمّنها القوى الإقليمية، سعياً إلى الحفاظ على الطائفة والبقاء على قيد الحياة. وبعد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، قال وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية “الجبل على مشارفِ الجوع. الجبل ولبنان. لكن يهمّني الجبل”.