إسرائيل عشية “خراب الهيكل”
بقلم: طوني فرنسيس

صراع على السلطة تحسمه قرارات المحكمة العليا أو مغامرات عسكرية جديدة أو الاطاحة بالحكومة بدعم أميركي

النشرة الدولية –

لا تمتلك إسرائيل دستوراً ولا خرائط نهائية. تحكمها مجموعة قوانين أساسية لا يتطلب تعديلها أغلبية ساحقة، ولذلك تحل الاعتراضات الشعبية واستطلاعات الرأي كبديل في مواجهة السلطة التنفيذية لمنعها من إقرار تشريعات محددة.

في المعركة الراهنة بين حكومة متطرفة تسعى لتطويع القضاء وإفقاده قدرته على اتخاذ قرارات مستقلة، وبين جمهور واسع تقف على رأسه قوى أساسية، بدءاً من رئيس الدولة وقيادة النقابات (الهستدروت) مروراً بأحزاب المعارضة وصولاً إلى جنود الاحتياط والشركات ورجال الأعمال، انقسمت إسرائيل عمودياً إلى معسكرين كبيرين للمرة الأولى منذ قيامها قبل 75 عاماً، وتصاعدت فيها التحذيرات العلنية من أن استمرار الصراع يهدد وجود الدولة العبرية نفسها .

مع ذلك ورغماً عن الاحتجاجات والتظاهرات المتتالية منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو في ديسمبر الماضي (كانون الأول)، أقر الكنيست قانون “الإصلاح القضائي” في 24 يوليو (تموز) بأغلب 64 صوتاً ضد لا شيء بسبب انسحاب المعارضة من التصويت.

ويسمح هذا القانون للحكومة باتخاذ قرارات وإجراء تعيينات بمعزل عن التدقيق القضائي، ويلغي قدرة المحكمة العليا على الرقابة ويقيد حركتها ويضع القرار في يد السلطة التنفيذية التي يتحكم بها دعاة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، ودعاة “يهودة” الدولة والامتناع عن الخدمة في الجيش من أحزاب التطرف الديني الممثلة في الحكومة، وعلى رأس هؤلاء رئيس هو نتنياهو يسعى للتهرب من المساءلة في دعاوى فساد تلحقه منذ سنوات.

نخر الانقسام جسم الدولة في ظروف تحديات لا تحتمل التلاعب. القادة الذين انقلبوا على “الإجماع” في موضوع القضاء هم الأكثر تطرفاً في مواجهة شعب فلسطيني يرفض الاحتلال والاستيطان ويخوض مواجهات يومية ضد المستوطنين وحماتهم في الجيش الإسرائيلي، وهؤلاء القادة أنفسهم الذين يتحدثون عن ضرورة مواجهة التهديدات الإيرانية، ميليشيات ومشروعاً نووياً، هم الذين يتهمهم مواطنوهم بإضعاف الجبهة الداخلية وتقسيمها وإعطاء الدوافع لإيران وأذرعها للتجرؤ على تهديد الدولة العبرية.

عاد الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ من لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن ليحذر “من هذه اللحظة”. وجّه كتاباً مفتوحاً عبر صحيفة “معاريف” دعا فيه إلى “الحفاظ على حدود الخلافات والامتناع عن العنف والخطوات التي لا يمكن العودة عنها”. كان العنف ينتشر في الشوارع ليس فقط العنف النظامي بين الشرطة والمحتجين، بل بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها.

“أنا قلق على أمن إسرائيل” قال هرتسوغ، مضيفاً في لغة تحذيرية، “نحن في عشية خراب الهيكل. هذا وقت ضبط النفس. إياكم والحرب الأهلية”.

كان الرئيس الإسرائيلي يقصد ما يقول، فالأربعاء الماضي أحيا اليهود ذكرى خراب الهيكل على يد نبوخذ نصر في المرة الأولى، ثم على يد الرومان. وفي الروايات أن خلافاتهم الداخلية سهلت على خصومهم تدمير هيكلهم.

النائب المعارض البارز بيني غانتس أطلق تحذيراً مماثلاً في المناسبة بقوله، “إنه يوم حزين، عشية 9 أغسطس (آب) في التقويم اليهودي. نحن على شفا الهاوية”.

إلى هذا الحد يشعر العديد من الإسرائيليين بخطورة ما آلت إليه الاشتباكات السياسية الداخلية منذ مطلع العام .

الكاتب أوري مسعاف يختصر الوضع بقوله إن، “بيبيستان (دولة نتنياهو) ودولة يهودا أعلنتا الحرب على إسرائيل الديمقراطية”، و”مصير إسرائيل في يد قضاة المحكمة العليا”.

يعتمد كثيرون على ما ستقرره هذه المحكمة التي ستجري مراجعة قضائية لقانون عدم الأهلية إزاء خرق اتفاق تضارب المصالح الذي تم التوقيع عليه مع نتنياهو، كما ستناقش القانون الأساس الذي أقر في الكنيست ويصادر جزءاً كبيراً من قدرة المحكمة على إلغاء قرارات تتخذها السلطة.

ويأتي الاعتماد على المحكمة العليا إثر فشل الاحتجاحات في منع الحكومة من السير في خطتها.

لم تتأثر الحكومة الموصوفة باليمينية والتطرف بتظاهرات مئات الألوف ولا بتحذيرات وكالات التصنيف العالمية والشركات ورجال الأعمال. ولم تردعها هجرة الشباب ولا تناقص المهاجرين إلى إسرائيل بنسبة 20 في المئة خلال النصف الأول من العام الحالي، كما لم يزعجها وقف خدمة الاحتياط في الجيش ولا نداءات واعتراضات الحليف والراعي الأميركي الذي يرفض حتى الآن استقبال نتنياهو في البيت الأبيض في سابقة لا مثيل لها في العلاقة بين الدولتين.

رفض العسكريين في الاحتياط التطوع للخدمة شكل أبرز التحديات المباشرة للسلطات. رئيس الأركان إسحق هاليفي وضع أمام نتنياهو “تقريراً خطيراً عن حجم إلغاء التطوع في الجيش، وعن تداعياته المحتملة على تماسك الوحدات وعلى كفاءتها العملياتية”.

هذه الكفاءة يقول التقرير أنها تراجعت خصوصاً في سلاح الجو “الذي ينزف” بحسب ما كتب عاموس هرئيل في” هآرتس”، حيث إن” التوتر بين طواقم سلاح الجو في الاحتياط وبين التقنين واضح إلى درجة العداء الفظ في بعض الأسراب.”

يفتخر الإسرائيليون ومؤيدو الدولة العبرية الأجانب بأن الدولة اليهودية تقدم مرة أخرى نموذجاً ديمقراطياً في العلاقات بين مكوناتها. والصراع الحالي إنما يدور بين وجهتي نظر، واحدة تتمسك بالسلطة وتحاول تعزيز مواقعها فيها والأخرى تسعى بدورها للوصول إلى السلطة وممارستها.

وفي مسار الصراع الدائم منذ بداية العام لم يشعر العرب في إسرائيل أنهم معنيون كثيراً بالتطاحن الجاري، أما سكان الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع فلم ينالهم سوى المزيد من الاعتداءات والهجمات وغزوات المستوطنين .

سيبحث المتناحرون في الأحزاب اليهودية عن مخرج . رهان معارضي الحكومة يتراوح بين الاعتماد على رفض المحكمة العليا للتعديلات القضائية وبين الاستعانة بالصديق الأميركي للسير نحو إسقاط التحالف الحاكم والاتيان بحكومة جديدة قد تتشكل بنتيجة انتخابات مبكرة. أما رهان نتنياهو وحلفائه فقد يذهب في اتجاه فتح معارك ضد الفلسطينيين أو ضد الأعداء الخارجيين بدءاً من حزب الله وصولاً إلى إيران.

كانت الحروب ضد “الآخرين” وسيلة ثابتة لتوحيد سكان “الحصن” الإسرائيلي، واليوم أيضاً يمكنها أن تكون مخرجاً مؤقتاً لصراع مديد على السلطة، يعيد على الأقل إسكات اعتراضات العسكريين ويطوّع الخائفين على مصير “الدولة”.

Back to top button