هل خسر مهرجان قرطاج الدّولي ألقه نهائياً؟
النشرة الدولية –
النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي –
مع أواخر أيام الصيف وانتهاء موسم الاحتفالات والمهرجانات، لا بدّ أن نتوقف عند الحدث الأهم في تونس، فنياً وثقافياً، وهو مهرجان قرطاج الدّولي وموقعه اليوم. كيف نقرأ واقعه اليوم؟ هل ما زال يُمثّل القيمة ذاتها عند التونسيين؟ ما الذي اختلف؟ وما هو مستقبل مثل هذه المناسبات مع تغيرات كبيرة في حياتنا اليومية؟
أولا، لا شكّ بأن مهرجان قرطاج كان هو “العيد” بالنسبة إلى تونس وأهلها. كان بمثابة نقطة ضوء يتطلّع إليها التونسيون لمشاهدة أرقى الحفلات واللقاء مع أهمّ النجوم.
هكذا اقترن مهرجان قرطاج بأسماء الكبار، وحمل ذكريات ظلّ يتناقلها الجمهور من جيلٍ إلى جيل. وهناك نُسخ يحفظ التونسيون تواريخها لارتباطها بإحدى الشخصيات الكبرى، فيُقال هذه السنة التي غنت فيها أم كلثوم، أو تلك التي غنّى فيها عبد الحليم أو وردة.
هؤلاء الكبار غادرونا، لكنّ الساحة الفنية العربية والعالمية لم تخلُ نهائياً من أسماء تحمل مشروعات فنية راقية يمكن أن تمثل قيمة هذا المسرح وتاريخه. والأكيد أن أيّ تغيير مجتمعي ينتج بطبيعة الحال أشكالاً تعبيرية فنيّة جديدة و قد تكون “صادمة” أحياناً.
فمع انتشار الإنترنت والثورة الرقمية، وُجدت أدوات إنتاجية متاحة للجميع، رجّت كل المعايير وحصلت “لخبطة” بين ما هو فني وغير فني، وما هو جماليّ وغير جمالي. وأسهم الجمهور في تثبيت هذه اللّخبطة داخل فضاء التواصل الاجتماعي من خلال التعاليق والتفاعلات ومشاركة الإنتاجات أو الأعمال التي ليست بالضرورة جيدة ولا تعجبه بل ويسخر منها أحياناً.
غير أنّ هذه السخرية باتت سبباً في ترويج أي عمل وقد تتحول إلى وسيلة دعم لمثل هذه الظواهر، في ظلّ غياب النقد الفني و”انقلاب” مقاييس التقييم التي أصبحت مرتهنة في عدد المشاهدات.
ولكن إن كان يصعب السيطرة على “الابتذال” في الفضاء العام، فهل يصعب على المؤسسة الثقافية العمومية رصدها؟ أم هل أنّها تصنع من نفسها امتداداً لحالة “الانفلات” الإنتاجي التي تفرضها البيئة الرقمية؟
الغاية الربحية
في ما يخص هذا العام، من الضروري القول إنّ هناك حفلات معينة ارتقت إلى مستوى مهرجان قرطاج الدّولي، مثل حفلة الفنان التونسي رؤوف ماهر الذي أحياها قبل شهر تقريباً، وهي استوفت كلّ مقاييس العرض الناجح فنياً وجماهيرياً. لكنّ مثل هذه السهرة هي مع الأسف لا تشكّل إلا نسبة ضئيلة من المهرجان، أما البقية فقامت على مبدأ الهدف الأوّل والأساسي: تحقيق إيرادات وبيع التذاكر لا أكثر.
لنتّفق أنه من البديهي وليس خللاً أن يقترن كل منتج فني بالرّبح وإلا فما قيمة أيّ منتج من دون مردود مادي. لكنّ التجاري ليس أبداً التمييع والابتذال. فالأعمال التجارية الربحية ضرورة حتى تدفع بحركة الاقتصاد الثقافي ولا يمكن نفي العلاقة بين الاقتصاد والثقافة، وإلا فكيف سنضمن استمرارية الإنتاجات الفنية والفكرية والثقافية في عصر الصناعات الثقافية؟ بل أفضل الأعمال هي التي تنجح في تحقيق المعادلة بين الربح الاقتصادي والجمالي الفني الإبداعي.
وبهذا، يمكن للفنان تقديم تصوّر مبهر ولافت لأنّ مسرح مهرجان قرطاج ليس فضاءً افتراضياً. فمن يتحمل عبء اقتطاع تذكرة أحياناً باهظة الثمن وعناء التنقل فلأنّه يريد مشاهدة ما يعجبه وليس ما يضحك على رداءته.
نذكر في عام 2008 كان هناك حفلة للفنان مرسال خليفة على مسرح قرطاج، ونذكر أنّه في ذلك الوقت كانت الموسيقى الإيقاعية هي الطاغية، وبدل القطيعة مع الموجة الطاغية، اختار خليفة الانسجام والاندماج مع “التجديد”، فلم يقدم أغنيات مثل “الواوا” وغيرها، بل أعاد توزيع كلّ أغانية وأدخل آلات وإيقاعات جديدة واكبت العصر دون أن تفقد الأغنية قيمتها الفنية. وكانت واحدة من أكثر الحفلات إقبالاً، وخصوصاً من فئة الشباب في ذلك الوقت.
أما الآن، فيبدو أنّ إدارة المهرجان قد انساقت خلف التجاري بمنطق الغاية تبرر الوسيلة والعرض المُربح هو المبرمج، حتى وإن غامرنا بتاريخ هذا المهرجان واسمه.
وربما لهذا السبب، صار راغب علامة هو علامة للمهرجان بحيث أحيا هذا العام حفلة في المهرجان، بعد حفلته العام الماضي وحفلات أخرى في السنوات التي سبقتها. وكذلك أيضاً الفنان صابر الرباعي وغيرهما من الأسماء المكرّرة، وكأنّ بإدارة المهرجان تهاب المغامرة بعروض جديدة لفنانين آخرين يرتقون إلى قيمة المسرح وفي الوقت نفسه قادرين على استقطاب الجمهور.
ماهر رؤوف
سياسة ثقافية غائبة
السقوط في مثل هذه الأخطاء نراه دليلاً واضحاً إلى أنّ المهرجان ليس إلا صورة واضحة عن بلاد تسير من دون سياسة ثقافية. وأذكر أن ورقة الترشح للانتخابات التشريعية في تونس أكدت، من ضمن شروط المشاركة، ضرورة تقديم نبذة عن مشاريع في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فيما لم تضع المشروع الثقافي شرطاً أساسياً. وقد وجدت تفسيراً لذلك في أن تمثّل السلطة للثقافة لا يكون خارج حلقة الترفيه، وبذلك ليس لها أهمية المجالات الأخرى، ولهذا فإنها في تصوّرهم هي الأقلّ أهمية. ويبدو أنّ مهرجان قرطاج هو انعكاس مباشر لهذه النظرة الدونية للثقافة.
ولو أردنا أن نعرّف الثقافة فسنجد صعوبة كبيرة في ذلك لاعتبارات عدة منها: تطوّر هذا المفهوم وتحوّله وأيضاً تأثيرات الثورة الرقمية وما أنتجته من ممارسات ثقافية جديدة. ولكن سنختار من بين التعريفات المقدمة من أنثروبولوجيين وباحثين في علم الاجتماع، تعريفاً للفيلسوف أندريه مالرو André Malraux والذي يقدّمها: “مجهود الإنسان على التفوّق على نفسه إمكاناته لتحقيق ذاته واكتمالها. بواسطة الثقافة يلج الإنسان مجالات جديدة ويطوّر من نفسه. والثقافة تحرّر ونور يضيء حياته”.
نفهم من ذلك أنّ الثقافة ممارسة ترتقي بالإنسان وتدفعه دائماً إلى البحث عن الأفضل وكسر حدود إمكاناته. والمثقف هو من يقترح هذه الممارسة فيجعل من نفسه القدوة، ليس من أجل تقليده بل من أجل تحفيز ذوات أخرى على الفعل الثقافي. هذا على المستوى الفردي، ولكن حين نطرح الثقافة في سياق الانتقال الديموقراطي والتنمية، فهل ينجح الفعل الإنساني خارج العمل الجماعي الذي يقترح سياسة عامة ثقافية للبلاد تحمل معنى وأهدافاً ومشاريع تساهم في تنفيذها مؤسّسات الدول والمجتمع المدني وتوجهات التظاهرات المحلّية والدولية؟
ما من أحد يرفض تعابير فنيّة جديدة أو جماليّات مغايرة للمألوف ومتجدّدة معاصرة، ولكن نرفض أن يكون “الفن” خالياً من الفكر.
الفكر وحده هو الذي يحفّز المبدع على خلق تصوّر فني وتقديم مضامين بأسلوب جمالي يمكنه من تقديم معان خالدة عبر الزمن. هذا كلّه من منطلق أن الفن ثقافة الحياة وثقافة التحريض على العيش بعقل حرّ ومبتكر. أي قيمة لفن لا يرجّ ولا يغير؟