هل انتهت ظاهرة داعش

ماجد كيالي

كاتب وباحث فلسطيني

 

 

برز “داعش” كقوة تهديد، وكظاهرة صاعدة، في صيف 2014، مع سيطرته على مدينة الرقة، في سوريا، ثم على مدينة الموصل في العراق، لكن بدأ بالانحسار في العام 2017، أي بعد ثلاثة أعوام، بعد خروجه من الموصل، وانحسار نفوذه في العراق ثم في سوريا (2018)، وهو بات الآن يخوض آخر معاركه، على الأرجح، في شمالي شرق سوريا، وهو ما بشّر به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مؤخّرا.

مع ذلك فربما أن ظاهرة “داعش” لن تختفي بصورة نهائية، فهكذا تنظيمات لديها من السيولة ما يمكّنها من الاستمرار بشكل أو بآخر، أي حيث ثمة مناخات تتيحها، أو حيث ثمة توظيفات تطلبها، أو تسهّل لها، بيد أن اليقيني في شأن تلك الظاهرة أنها انتهت تماما، إن لجهة قدرتها على البقاء في منطقة معيّنة، أو لجهة فرض أجندتها فيها، كما إنها انتهت، بالتأكيد، بوصفها قوة تهديد سواء في العراق أو في سوريا، لاسيما مع آخر المعارك التي تشهدها بعض المناطق في الحدود السورية ـ العراقية.

وللتذكير فقد ظهر “داعش” في أبريل 2013 في العراق، لكنه برز كقوة خطيرة مع سيطرته على مدينة الرقة في شمال غربي سوريا، في يناير 2014، بعد انسحاب “جبهة النصرة” وبعض الفصائل “الإسلامية” منها، في ذلك الحين، والتي كانت تسيطر عليها، إثر انسحاب النظام منها (أبريل 2013) أيضا، في مصادفة غريبة أو مثيرة للتساؤل، وهو ما اعتبر بمثابة البداية لصعود هذه الظاهرة البشعة في المشهد السوري. رغم ذلك فإن الظاهرة الداعشية لم تتوطد إلا بسيطرة التنظيم على الموصل، في يونيو 2014، حيث أعلن منها الخلافة، وإقامة الدولة الإسلامية، وذلك إثر انسحاب الجيش العراقي من تلك المدينة، بطريقة كيفية وغامضة (إبان حكم المالكي)، ما أدى إلى استحواذه على أسلحة أربعة فرق عسكرية، ومئات الملايين من الدولارات في المصرف المركزي. هكذا، فمنذ ذلك الحين بات داعش يسيطر على أراض شاسعة في سوريا، في الرقة ودير الزور والطبقة، وفي العراق في الأنبار وصلاح الدين ونينوى، مع حرية حركة بقوافل سيارة بين باديتي العراق والشام، ومع تجارة في النفط مكنت “داعش” من الاستمرار في تمويل أنشطته.

بيد أن ما يفترض إدراكه، أو الانتباه إليه، هنا، أولا، أن معظم النظم المحيطة بسوريا والعراق، أو التي تشتغل كفاعل محلي في هذين البلدين، ساهمت في تخليق “داعش” وأخواته، أو السماح بوجودهما، بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو مواربة. تأتي ضمن ذلك، أيضا، الدول الغربية التي سكتت عن المقتلة الفظيعة في سوريا والعراق، وعن تدخل إيران وميليشياتها في هذين البلدين، والتي اكتفت بمراقبة نمو ظاهرة “داعش”، من بلدانها، وسكتت عن الوافدين من مواطنيها للمشاركة في القتال، مع أنها اشتغلت على عدّهم وتنظيم أضابير لهم.

ثانيا، ما تقدم يفيد بأن نشوء “داعش” ولاسيما صعوده، وتطور إمكانياته، واحتلاله المشهدين السوري والعراقي، لم يأت نتيجة تطور طبيعي في الحركات الإسلامية، سواء الدعوية والمعتدلة أو المقاتلة والتكفيرية، بقدر ما أنه يعود إلى الشروط المساعدة، أو إلى التسهيلات التي مكنته من حيازة الموارد المالية والعسكرية (خاصة بعد سيطرته على الموصل)، كما إلى تباين إرادات الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين أتاحوا له الاستمرار والتمدد، بل ووظفوه، كل لأغراضه السياسية.

ولعل هذا ما لاحظه الخبير في شؤون الإسلام السياسي أوليفيه روا باعتباره “داعش”، والمنظمات الجهادية وليدي العولمة، وما بعد الحداثة، أكثر من كونهما وليدي بيئاتهما الشعبية.

ثالثا، يمكن ملاحظة أن الأطراف التي ادعت محاربة الإرهاب لم تشتغل على استهداف “داعش”، بدليل أن قواته كانت تتحرك بحرية شبه مطلقة وفي مواكب سيارة في مناطق مكشوفة بين باديتي العراق والشام، كما ذكرنا، وبدليل أن “داعش” لم يسيطر على معظم المناطق، في العراق وسوريا، نتيجة مواجهات أو معارك عسكرية جدية، بقدر ما كانت سيطرته نتيجة انسحاب الجيشين العراقي والسوري، أو نتيجة انسحاب فصائل عسكرية “إسلامية”، وبدليل أننا شهدنا أن “داعش” لم يصمد في أي منطقة تمت مواجهته بها في سوريا والعراق، وأنه ظل يهرّب قواته، من منطقة إلى أخرى، على مرأى من كل التحالفات الدولية.

رابعا، يستنتج من كل ما تقدم أن “داعش” هو بمثابة تنظيم من نوع خاص، أي ليس حركة سياسية طبيعية، وليس نتاج حراكات سياسية في التيارات الإسلامية في مجتمعي العراق وسوريا، إذ المصطنع فيه أكثر من العادي، والخارجي أكثر من الداخلي، وهو نتاج الغضب والإحباط، والتدين والعدم، كما هو نتاج صعود التيارات الدينية وهبوطها. أيضا، هذه ظاهرة جرى تصنيعها وتضخيمها وتوظيفها لإدارة الصراعات المحليّة أو للتحكّم بها، أو كأداة للصراع بالوكالة، إذ لكل فاعل إقليمي ودولي “داعش” خاصّته. خامسا، ما ذكرناه لا يعني أن “داعش” يتبع دولة معينة، رغم أن ثمة أنظمة معينة سهلت قيامه (العراقي والسوري والإيراني)، فهكذا ظاهرة يكفي فقط تخليقها كي تولد دينامياتها وحيواتها الخاصة، لكن يفترض أن نلاحظ في هذا السياق أن أكثر من استفاد من “داعش” هو النظامان السوري والإيراني، وأن روسيا لم تقاتل داعش بمعنى حقيقي، مع سعي كل الأطراف المذكورة إلى تحويل الصراع السوري إلى مجرد حرب ضد الإرهاب؛ علما أن هذه القوى أقل شيء حاربته هو “داعش”، وفي المقابل فإن أقل شيء حاربه “داعش” هو هذه الأطراف، بانشغاله بمقاتلة واستنزاف قوى المعارضة السورية، وقضم المناطق التي كانت تسيطر عليها.

سادسا، وأخيرا، فإن ظاهرة “داعش” (وجبهة “النصرة”) أدت في ما أدت إليه إلى تقويض صورة وشرعية التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، لاسيما أن هذه التيارات لم تشتغل على نزع شرعية جماعات السلفية الجهادية المتطرفة والإرهابية، ولم تشتغل على تمييز نفسها عنها، بتفنيد منطلقاتها، المتعلقة بالجهاد والتكفير والجاهلية والحدود والخلافة والحاكمية. وطبعا، فإن تفسّخ التيارات الإسلامية الجهادية والتكفيرية، إن على شكل “القاعدة” أو “داعش” وأي من أخواتهما، لا يقتصر على التيارات الإسلامية التكفيرية والعنفية “السنّية”، إذ هو يشمل الجماعات الإسلامية الميلشياوية “الشيعية”، أيضا، بخاصة أن هذه لديها دولة مركز (إيران)، ومرجعية دينية (الولي الفقيه)، وتراتبية دينية، في حين أن الإسلام السياسي “السني” يفتقد إلى كل ذلك، إذ ليست لديه دولة ـ مركز، ولا حزب، ولا زعيم أو إمام، بل إن “السنّة” لا يعرفون أنفسهم كطائفة. والمعنى أن ما فعلته ميليشيات حزب الله وكتائب أبوالفضل العباس وبدر والنجباء وزينبيون وفاطميون وعصائب الحق والحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق لا يقل وحشية عما فعله “داعش” وأخواته، علما أن “داعش” استهدف البيئات الشعبية “السنّية”، أكثر من أي بيئة أخرى.

هل انتهى “داعش”؟ أو هل انتهت التوظيفات التي أنشأته أو سهلته؟ وهل آن أوان حل الصراع السوري؟ هذا ما يفترض معرفته في الأشهر القليلة القادمة.

* نقلاً عن “العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى