تراجعات تغير السرد المناخي و”كوب 28″ في دبي قد يكون مؤتمرا تاريخيا
بقلم: أنس بن فيصل الحجي
ستعلن المزيد من الدول أنها لا تستطيع تحقيق الحياد الكربوني خلال 2050
النشرة الدولية –
على رغم كل الأموال، وعلى رغم كل الدعم السياسي والإعلامي، أعلن ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، الأسبوع الماضي، تراجع بريطانيا عن أهدافها المناخية، حيث أعلن عن تأجيل منع إنتاج سيارات جديدة تعمل بالبنزين والديزل، خمس سنوات من عام 2030 إلى 2035، وخفف من متطلبات سخانات المياه، كما ألغى قراراً يقضي بإلزام أصحاب البيوت بتبني تقنيات تزيد من كفاءة استخدام الطاقة. وما إن أعلن سوناك عن هذه التغييرات حتى شن عليه الإعلام اليساري البريطاني هجوماً شديداً، متجاهلين حقيقة أنه لا يمكن لبريطانيا أن تبقى على نفس المسار بغض النظر عمن يسكن في 10 دوانينغ ستريت.
وعلى رغم كل الأموال، وعلى رغم كل الدعم السياسي والإعلامي، وعلى رغم كونها الدولة الأولى في العالم التي أعلنت أنها ستصل إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2045، أعلنت السويد رسمياً أنها لن تتمكن من الوصول إلى الهدف في الوقت المحدد بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد وانخفاض سعر صرف الكرونا، العملة السويدية.
منذ أسبوعين اتفقت مجموعة العشرين في اجتماعها في الهند على زيادة قدرات الطاقة المتجددة، ولكنها فشلت في الاتفاق على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري. وفي أغسطس (آب) الماضي أعلن جون كيري، المبعوث الأميركي للمناخ، وزير الخارجية السابق، أن الولايات المتحدة لن تحقق أهدافها المناخية إلا إذا كان هناك تعاون دولي لمحاربة التغير المناخي. والكل يعرف، بخاصة من نتائج قمة العشرين، أنه ليس هناك تعاون دولي.
منذ أيام عُقد مؤتمر خاص بالمناخ بزعامة أكبر اثنين من بين داعمي الحرب على التغير المناخي مادياً، بيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت، ومايكل بلومبيرغ، مؤسسة وكالة “بلومبيرغ”، ومعهما الأمير ويليام، ابن ملك بريطانيا. أهم ما في الأمر هو تصريح بيل غيتس الذي قال فيه إن هناك مبالغات في موضوع التغير المناخي، وأن ارتفاع درجة الحرارة بمقدار درجة ونصف درجة مئوية لا يعني نهاية العالم. هذا الكلام لم يعجب الإعلام اليساري المتطرف الذي جعل من بيل غيتس شخصية تاريخية في السنوات الأخيرة بسبب دعمه للحرب على التغير المناخي، فنقلوا كلامه ثم نبّهوا القارئ، وبلؤم شديد، من أن بيل غيتس غير متخصص وليس عالماً بالمناخ.
هذا الإعلام هاجم الحكومة السويدية، على رغم تطرفها مناخياً، وهاجم رئاسة وزراء بريطانيا لتراجعها قليلاً عن تطرفها، وهو يقلل من أهمية أكبر داعم لمحاربة التغير المناخي في العالم لأنه قال الحقيقة. السؤال: هذا الإعلام المتطرف، ماذا يريد؟ ومن وراءه؟ لقد أصبح التغير المناخي عندهم “ديناً”، فتعصبوا له تعصباً أعمى، حتى لم يعودوا يختلفون عن أي مجموعة دينية متطرفة، ترى أن كل من لا يتبع تعاليمها حرفياً، كافر.
شخصياً، أتفهم الهجوم على القيادة السياسية في السويد وبريطانيا، حيث هناك أهداف وأطماع سياسية للعديد من الفئات، ولكن الانتقاص من أكبر ممول للحرب على التغير المناخي لأنه تحدث عن المبالغات المناخية يدل على أن الأمر تجاوز الكلام في العلم والمنطق.
وعدم المنطق لا ينطبق على الإعلام اليساري المتطرف فقط، بل ما زال هناك سياسيون أوروبيون يتصرفون بمنطق غريب. فها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطالب شركات النفط الفرنسية ببيع الوقود للمواطنين بسعر التكلفة، في محاولة لإقناع الشعب الفرنسي بأن المشكلة هي الشركات وليس سياسات حكومته التي أحدثت واحدة من أكبر أزمات الطاقة في فرنسا، ومتجاهلاً التظاهرات التي بدأت منذ سنوات عدة وما زالت مستمرة حتى الآن. شركات النفط الفرنسية رفضت طلب ماكرون. ما المشكلة هنا؟ المشكلة أن الضرائب على البنزين والديزل من الأعلى في العالم، وبلغت إيرادات الضرائب على الوقود نحو 40 مليار يورو في السنة أخيراً. لو أراد ماكرون تخفيض سعر البنزين والديزل فعليه تخفيض الضرائب. لماذا على ملّاك الشركات أن يخسروا كي يربح هو سياسياً؟
السرد المناخي يتغير، والنتيجة، أزمة طاقة!
ما نراه من تراجعات الآن هو الأكثر رسمية، والأكبر من حيث الأثر، ولكن هذه التراجعات بدأت منذ عام 2020. وكنت قد كتبت مقالاً في أواخر عام 2021 بعنوان “سياسات الحياد الكربوني… تراجعات بالجملة والإعلام يتجاهل”، وهذا يدل على أن التراجعات بدأت منذ فترة، ولكن الفرق حالياً هو أن الإعلام لم يتجاهل، ولم يقرر نقل الخبر فقط، ولكن قرر أن يهاجم أيضاً.
الواقع أن التخفيف من حدة التغير المناخي يتطلب حلولاً طويلة الأمد، والمشكلة أن التطرف جعل الحكومات تتبنى سياسات تتطلب سرعة في التطبيق، تتنافى مع الواقع، وترفع التكاليف بشكل لا يمكن تحمله. لهذا سنرى أن التراجعات ستستمر، وستعلن المزيد من الدول أنها لا تستطيع تحقيق الحياد الكربوني في 2050، وأن الوصول إليه سيتأخر قليلاً. ويتوقع كاتب هذا المقال أن التأخير سيكون كل خمس سنوات قابلة للتجديد بحيث أنه لن يتم الوصول للحياد الكربوني إطلاقاً. هذا التأخير “الخمسي” سيجعله مقبولاً سياسياً، ومقبولاً عند عدد كبير من حماة البيئة.
كل ما ذُكر أعلاه، إضافة إلى مواقف الصين والهند والدول الأفريقية والدول النفطية، بخاصة عدم التوافق في مجموعة العشرين على التخلص التدريجي من النفط الأحفوري، ومواقف المرشحين الجمهوريين للرئاسة في الولايات المتحدة من التغير المناخي ودعمهم لصناعة النفط، يعني أن “السرد المناخي” يتغير. السرد الأوروبي لقضية المناخ والسياسات التي يريدون العالم أن يتبناها أثبتت فشلها، ولا بد من بديل. والبديل قد نراه في مؤتمر المناخ المقبل في دبي “كوب 28″، وإذا حصل ذلك، فإن هذا المؤتمر سيكون تاريخياً بكل المقاييس.
هذا التغيير يعني أن الطلب على الفحم والغاز والنفط سيكون أكبر من كل التوقعات الحالية، ونظراً لانخفاض الاستثمارات، وزيادة الطلب المفاجأة، فإن العالم سيعاني من أزمة طاقة كبيرة، ولكنها ستكون أصغر من أزمة الطاقة التي سيعاني منها العالم لو استمرت السردية الأوروبية للمناخ كما هي. فالسردية الأوروبية توحي بتوافر الطاقة، ولكن في أوقات معينة تختفي تماماً، كما حصل في تكساس في الصيف عندما انخفضت معدلات توليد الكهرباء من الرياح بشكل كبير، وكما حصل في بريطانيا في عام 2021 عندما توقفت الرياح بشكل مفاجئ. نتجت من ذلك ارتفاعات قياسية في أسعار الغاز والغاز المسال والكهرباء، ونتج منه إفلاس 21 شركة طاقة بريطانية.