مشكلتنا مع العراق
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

تمرُّ علاقتنا بالعراق بفترة يغلب عليها التوتر، بعد الهدنة التي نعم بها الطرفان لبضع سنوات، وذلك بعد اللغط الذي دار مؤخراً حول قرار المحكمة الاتحادية المتعلق بإلغاء اتفاقية خور عبدالله، من جانب العراق، منفرداً.

باعتقادي أن الوضع الجيوسياسي مع العراق لا يمكن أن يصبح طبيعياً، والعراق بوضعه الحالي ومعاناته مع الفساد الإداري والبطالة، وضعف العملة وتعدّد مراكز القوى، واستمرار النفوذ السياسي الإيراني الطاغي، وخفوت صوت السنة وغيابه مع غياب دور بقية الأقليات، وانسحاب كل الكفاءات الإدارية والفكرية والعلمية تقريباً من الساحة لمصلحة قوى الأحزاب والفرق والميليشيات الدينية، التي تجاوز عددها السبعين. وبالتالي يصعب تصوّر نمو وتطور علاقات حميمة وطبيعية بين الدولتين، ووضع العراق بهذا السوء، أمنياً واقتصادياً وسياسياً.

***

من الأمور التي غيرت وجه عراق ما بعد 2003، انغماس القطاع الأكبر من العراقيين في مآتم وأحزان، طوال أيام العام، فما أن ينتهوا من مأتم حتى تبدأ أربعينيته، وما أن تنتهي هذه حتى يبدأ مأتم وآخر وثالث ورابع، وخامس وهكذا، من دون توقف أبداً، بحيث تحولت المآتم، التي كنا نعرفها أو نسمع بها في السابق، من أيام معدودة في السنة إلى بضعة أشهر، تتوقف فيها الحياة العادية ليتحول كامل اهتمام الدولة لتأمين مواكبها، والحفاظ على أمن المدن وأمن المطارات ومنافذ الحدود، وتأمين دخول ملايين الزوار وخروجهم، في ظاهرة لم يعرف العراق في تاريخه مثل زخمها، وأصبحت تشمل عدة مدن عراقية كبيرة، لفترات طويلة من العام، وهي ظاهرة أصبح ينفرد بها العراق من دون غيره من الدول أو المجتمعات «الشيعية» الأخرى، وهذا قد يكون مطلوباً ومرغوباً من جهات عدة، مستفيدة من الوضع، مالياً أو دينياً أو عقائدياً، والأهم من ذلك سياسياً، لكن الظاهرة أصبحت تشكل كارثة اقتصادية واجتماعية كاملة الأركان للمجتمع العراقي، ولوضع العراق غير المستقر، والمؤثر سلباً علينا وعليه وعلى ما جاوره من دول.

***

للخروج من هذا الوضع المأساوي، حاولت قيادات سياسية ودينية عدة، منهم القائد السابق في حزب الدعوة غالب الشابندر، وسبقه بعقود العالم الراحل علي الوردي، غير آراء واضحة لغيرهم من أمثال المرجع اللبناني محمد حسين فضل الله، ومحمد اليعقوبي، ومحمد باقر الصدر، وأحمد الوائلي، وتحذيراتهم من خطر الطقوسية في المراسم الحسينية وسواها من المراسم الدينية، على حساب الولاء للوطن، إلا أن أصوات المطالبين باستمرار الوضع أصبحت هي الأعلى، مع الزيادة الكبيرة في جرعة جلد الذات، وهي أمور استجدت، واستفحلت مؤخراً فقط، فأين كانت منذ ألف عام أو أكثر؟ وما هي النتيجة النهائية لكل مظاهر الحزن العراقي المستمر؟ هل قلّ الفقر في العراق؟ هل تناقص عدد المعدمين فيه؟ هل زادت نسبة المتعلمين؟ هل أصبح العراق أقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؟

بغير عراق آمن ومستقر فإن العلاقة بينه وبين جيرانه ستستمر على توترها، ونتمنى أن يتغلّب العقل والمنطق، وضرورات العيش المشترك والآمن، في النهاية، على المعنيين بالأمر في القطر الشقيق، لننعم جميعنا بالسلام بعد أن أرهقتنا الخلافات، التي تسببت بها الاختلافات.

***

في شتاء تشيكوسلوفاكي قارس عام 1962، كتب الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري قصيدته «يا دجلة الخير»، يشكو اكتئابه وغربته، وهي القصيدة التي لو لم يكتب غيرها لكفاه ذلك فخراً، وتستحق أن تكون مطلعاً أو خاتمة لأي عمل أدبي عن العراق، فهي صرخة مغترب، يكتب تاريخه وتاريخ وطنه، الجريح:

حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني

يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ

حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به

لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين

يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ

على الكراهةِ بين الحِينِ والحين

إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ

نَبْعاً فنبعاً، فما كانت لتَرْويني

وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ

لَيَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين

ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني

يُحاكُ منه، غَداةَ البَين، يَطويني

ويسأل نهره الحبيب كما لو يعاتبه:

يا دجلةَ الخيرِ: قد هانت مطامحُنا

حتى لأدنى طِماحِ غيرُ مضمون

أتَضمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً

بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟

زر الذهاب إلى الأعلى