والحرب الإعلامية لا تقل ضراوة
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية  –

تُخضع سلطات الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة لتعتيم إعلامي خطير منذ بدء هجومها الدموي على القطاع قبل أكثر من خمسة أسابيع. وتؤكد قناة الجزيرة أن مدينة غزة، التي تتركز العملية البرية للاحتلال فيها، والتي اجبر مراسلوها على مغادرتها قبل أيام، مقطوعة عن العالم الخارجي. وتفرض سلطات الاحتلال منذ بدء هجومها البري قطعاً جزئياً أو كلياً للإنترنت والاتصالات، الأمر الذي يجعل التواصل مع المواطنين داخل مدينة غزة، وفي باقي أنحاء القطاع أمراً معقداً للغاية. وتسعى إسرائيل من خلال حجب المعلومات الآتية من القطاع للتحكم بالمعلومات، بما يخدم أهدافها من هذا الهجوم. وتتعاون الولايات المتحدة مع إسرائيل في هذا الهجوم ضد الفلسطينيين، وتساعدها لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية والأمنية، وتروج لدعايتها. ورغم ادعاء إسرائيل بأن هدفها من هذا الهجوم القضاء على حركة حماس واستعادة المحتجزين والأسرى لديها، الا أن الحرب الانتقامية الشاملة التي تنتهجها في هجومها على غزة تفيد بهدف إستراتيجي أكبر.

لا تسمح إسرائيل بدخول المراسلين الأجانب إلى قطاع غزة خلال هجماتها عليه عموماً، بحكم سلطتها كقوة احتلال تتحكم بمعابرها، فهذه ليست المرة الأولى التي تنتهج فيها إسرائيل ذلك الاجراء، اذ بدأته منذ هجومها الأول على غزة عام ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، الا أنه في هذه المرة جاءت إجراءاتها أشد تسلطاً وحسماً. كما تعمدت إسرائيل في هذا الهجوم الضغط على الفضائيات ووكالات الأنباء ممن لها مراسلون محليون داخل القطاع لتمنعهم من التغطية الاعلامية، كما تعمدت اصطياد المراسلين الصحافيين. لا تحجب إسرائيل المعلومات الواردة من غزة فقط، بل تسيطر أيضاً على المعلومات الخارجة من داخل الخط الأخضر، حيث يخضع الإعلام هناك لسيطرة الجيش خلال هجومها الحالي على غزة. جاء الإعلان عن حالة الحرب في إسرائيل في الثامن من الشهر الماضي، في سابقة لم تحدث منذ حرب عام ١٩٧٣. ويسري قانون الطوارئ بموجب إعلان حالة الحرب، والذي يعني من ضمن أمور أخرى، تقييد النشر في وسائل الإعلام والتعبئة العامة وتقييد التجمعات.

تستخدم إسرائيل مجموعة متنوعة من الأساليب الإعلامية للتحكم بالمعلومة والرواية بما يخدم مصالحها داخلياً وخارجيا. واستخدمت التضليل الإعلامي لتشويه الصورة وقلب الحقائق، لحربها الانتقامية ضد قطاع غزة خصوصاً عندما عملت على شيطنة حركة حماس، بعد هجوم السابع من أكتوبر، وسعت لفصل الحادث عن سياقه الطبيعي، الذي ارتبط باستمرار الاحتلال . كما استخدم الاحتلال التضليل بعد قصف مستشفى المعمداني وسقوط الكثير من الشهداء والجرحى، لتجنب الغضب والاستياء العالمي، وهو ذات الأسلوب الذي استخدمته عندما اقتحمت مستشفى الإندونيسي قبل أيام ومستشفى الشفاء أمس، وادعائها بوجود أنفاق ومحتجزين وأسرى إسرائيليين، لتبرير قصفها واقتحامها للمستشفيات. كما يلجأ الاحتلال للتضليل عندما يدعي أن حركات المقاومة الفلسطينية تتخذ من المدنيين دروعاً بشرية، لتبرر مجازرها بحق المدنيين الفلسطينيين.

ويستخدم الاحتلال أيضا التضليل للإيقاع بأفراد المقاومة الفلسطينية. فقد نشر الموقع الإلكتروني للجيش الإسرائيلي قبل أيام خبراً يفيد بتعليق العمليات البرية في قطاع غزة، ثم قام بحذفه بعد ذلك، مدعياً حدوث خطأ مطبعي. وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها إعلام الاحتلال هذا التكتيك بهدف التضليل. وكان الإعلامي الإسرائيلي يعقوب كاتس قد اكد على استخدام الجيش لسياسة تضليل مبرمجة ومقصودة، مؤكدا على وجود فِرقة من الناطقين الإعلاميين باسم الجيش مهمتها تتمثل في مثل تلك الأعمال. ويخفي الإعلام الإسرائيلي المعلومات في هذا الهجوم من أجل عدم توتير الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ولإحباط الجبهة الداخلية الفلسطينية.

وتستخدم إسرائيل معلومات غير صحيحة وتشكك في معلومات أخرى، بهدف حجب التعاطف الدولي مع الفلسطينيين في هذا الهجوم. فظهر بايدن أمام أعين العالم ليشكك في أعداد الضحايا المدنيين من الفلسطينيين، الذين سقطوا في الاعتداءات الدموية وقصف المنزل فوق رؤوس ساكنيها، متبنياً الرواية الإسرائيلية، ومعتبرا أن ذلك “ثمن طبيعي للحرب”. كما نشرت قنوات التلفزة العبرية الناطقة بلغات أخرى مقطع فيديو يشير إلى تزييف واصطناع الفلسطينيين لإصاباتهم في غزة في هذه الحرب، وهي في الحقيقة لقطات جاءت في تقرير، صدر في العام 2017 حول الحروب.

توصف الحالة التي يعيشها قطاع غزة وكذلك حال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وفي الضفة الغربية من قبل مراقبين غربيين بأنها المرحلة الأكثر انتشاراً للأخبار الزائفة والمضللة، والتي تتناقلها وكالات الأنباء الغربية والعربية ومنصات التواصل الاجتماعي وتروج لها، قبل التحقق من صحتها. ووصفت المديرة التنفيذية لقناة الـ بي بي سي البريطانية هذه الحالة الاعلامية الفريدة بأنها الأكثر استقطاباً. وعملت قناة الجزيرة بشكل خاص قدر استطاعتها في هذه الهجمة العسكرية العنيفة المنقطعة النظير على غزة بتغطية الاحداث من داخل القطاع، رغم الصعوبات الجمة التي تواجهها، كما يواصل مراسلوها ونشطاء كثر بالتعاون معها إما بتغطية مباشرة من مواقع الاحداث أو عبر هواتفهم النقالة لاخراج الصورة الحقيقية للجرائم التي يتعرض لها الفلسطينيون. كما يعمل نشطاء فلسطينيون وغير فلسطينيين للترويج للمعلومات الحقيقية التي تخرج من غزة، لمواجهة الرواية الإسرائيلية الغربية.

لم تكتف الولايات المتحدة بإظهار تعاطفها ودعمها المطلق لإسرائيل في هذا الهجوم الدموي على قطاع غزة، بل تعمدت أن تظهر كشريك لها، عندما قدمت الدعم المعنوي والسياسي والعسكري دون مواربة، تحت عنوان حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. تبنت الولايات المتحدة الرواية الإسرائيلية دون تدقيق أو تمحيص، وكانت مصدراً لترويجها على المستوى الغربي، حيث انتشرت تلك الروايات عبر أكبر وكالات الأنباء والصحف والفضائيات الأميركية. ورغم انكشاف العديد من الحقائق بعد ذلك، وتصاعد تأييد الرأي العام العالمي والأميركي للرواية الفلسطينية، وتزايد الاحتجاجات داخل الولايات المتحدة نفسها، والتي خرجت بمئات آلاف الأميركيين دعماً لوقف الهجوم الإسرائيلي على غزة، وصدور العديد من البيانات والرسائل لعدد من المشرعين، ومسؤولين وموظفين في وزارة الخارجية والبيت الأبيض والكونغرس ووكالات شبه حكومية، ناهيك عن استطلاعات الرأي التي تؤيد الغالبية فيها ذات التوجه، وتراجع مكانة بايدن الانتخابية أيضا. الا أن الموقف الأميركي ورغم كل تلك التطورات لم يتغير جوهرياً، وإن بات أكثر مرونة مقارنة بإسرائيل، حيث بات يدعو لهدنة مؤقتة تسمح بتبادل عدد من المحتجزين، في ظل عدم تحقيق إسرائيل لحسم وانجاز ملموس في المعركة الدائرة حتى الآن. الا أن موقف الولايات المتحدة الداعم والمؤيد على جميع المستويات لم يتغير، فتبنت الولايات المتحدة أيضاً رواية الاحتلال حول مستشفيي الاندونيسي والشفاء، في تشجيع لاقتحامهما. فالدولة العميقة في الولايات المتحدة وأروقة صنع القرار ممثلة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية تدعم إسرائيل وتتبنى حمايتها بشكل مطلق.

يسعى التضليل الإعلامي الإسرائيلي المدعوم أميركيًا لتشويه صورة الواقع، وإظهار هذا الهجوم بصورة حرب بين قوتين متعادلتين، بينما الواقع يتمثل في هجوم قوات عسكرية محتلة وتسيطر على كل مظاهر الحياة في قطاع غزة المحاصر، على قوات تحرر وطني عسكرية، بأسلحة بسيطة ويدوية الصنع. ويبدو أن الهجوم الإسرائيلي الأميركي الانتقامي على قطاع غزة الذي نشهده اليوم يتخطى الهدف المعلن بالقضاء على حركة حماس واسترجاع المحتجزين والأسرى، اذ إن عمليات التدمير الممنهج والقتل العشوائي، يؤكد على أن الهدف الاستراتيجي الأكبر هو ما تم الإعلان عنه في بداية هذه الهجمة حول تهجير الفلسطينيين، خصوصا أنه جاء في أعقاب عملية لحركة حماس وجهت صفعة للاحتلال كسرت هيبتها، ولحقها بالمعلومات المضللة للعملية، لحجب أي تعاطف مع الفلسطينيين في ظل شدة الرد وقسوته. ولكن نتنياهو، الذي يريد أن يحقق اختراقاً سياسياً، وحكومة اليمين المتطرف الرامية لتعميق الرؤية الصهيونية في المجتمع الإسرائيلي، القائمة على قاعدة النقاء العرقي واحتقار الآخر والاستعمار المستدام، تريد أن تجعل أهداف الهجوم الحالي أكثر طموحاً. إن وقف الهجوم أو وقف إطلاق النار قضية جوهرية لإحباط مخططات أعداء الشعب الفلسطيني، والذي قد يصبح ممكناً في حال استمرار تكبد القوى الغازية لخسائر بشرية، وتأجج الرأي الإسرائيلي ضد الحرب، وتحرك الولايات المتحدة لحماية إسرائيل من نفسها.

زر الذهاب إلى الأعلى