درس سياسيّ “مُحبِط” عمره أكثر من ثلاثين سنة لبنانيّة!

النشرة الدولية –

تلقيتُ، قبل أيّام، عبر تطبيق “واتس آب”، مقطعاً من مقابلة تلفزيونية أجرتها الإعلامية ماغي فرح، في بداية العقد الأخير من القرن الماضي، مع رئيس “حركة أمل” نبيه برّي، ولم يكن قد وصل بعد إلى رئاسة المجلس النيابي.

 

مذهل ما ورد في كلام برّي من مآخذ على “المارونية السياسية” وعلى الطبقة السياسية التي كانت تحكم لبنان منذ عام 1943، إذ إنّه يتطابق كلّياً مع المآخذ التي يسوقها، اليوم، الناطقون باسم المجتمع المدني، وقوى “التحرّر”، وتيّارات “التغيير”، وأحزاب “الإصلاح”، ومحاور “المقاومة”، ضد الطبقة السياسية الحالية، وسبق أن تبنّاها كثير من اللبنانيين، منذ “ثورة” 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019.

 

قال برّي في هذا المقطع من تلك المقابلة التلفزيونية الآتي: “كلّ ما وصلنا إليه كان بسببهم، ومن جرّب المجرّب كان عقله مخرّباً. هؤلاء فلقوا رأسنا: زويّك وحويّك، وحويّك وزويّك. الإقطاع فلان والإقطاع فليتان. فلان ابن فلان وفلان ابن فليتان. وصلونا في الآخر إلى خراب لبنان”.

 

 

pic.twitter.com/GF31Yr6Fsi

— abu omar (@abuomarbeirut) April 11, 2022

 

تابع برّي في هذه المقابلة التي أعتقد أنّه جرى توزيعها على نطاق واسع: “هل هناك من يصدّق أنّ كلّ الأموال التي وصلت إلى لبنان تبخّرت؟ أين كانت تذهب هذه الأموال؟ سمسرات وسرقات على عينك يا تاجر، ولكن هل شاهدتم يوماً وزيراً يُحاكم أو رئيساً للجمهورية؟”.

 

وختم: “هؤلاء في واد والشعب في واد. كانوا يضحكون على الشعب، وكان الشعب يحصّل قليلاً منهم في الانتخابات، لأنّهم كانوا يرشون الشعب حتى يصلوا إلى المجلس النيابي. لقد جُرّب هذا النظام وجُرّب هؤلاء الناس، فكفى!”.

 

بعد أكثر من ثلاثين سنة، على الأقل، يتكرّر الكلام نفسه، وبالصيغة نفسها، وبالمنطق نفسه، مع فارق جوهري أنّه بات يُستعمل، عن حق، ضد من سبق أن نطق به وسائر من تشاركوا وتعاونوا وتحالفوا وتخاصموا معه.

 

ما ورد في مقابلة برّي التلفزيونية هذه، يأخذ المراقبين إلى مسرحية “مزرعة الحيوانات” التي كتبها جورج أورويل، عام 1945، وخلاصتها أنّ هناك نوعية من الثوّار، بمجرّد أن تفوز بالسلطة، تصبح أسوأ بكثير من الحكّام الذين انقلبت عليهم.

 

ولا تحتاج الكارثة التي اجتاحت لبنان، في ظلّ الطبقة الحالية التي يجسّد الرئيس برّي أحد أبرز رموزها، إلى توصيف، فاللبنانيون يذوقون مرارتها، والمجتمع الدولي يعرف خفاياها.

 

وكلام برّي “الثوروي” ليس فريداً من نوعه في أرشيف السياسة اللبنانية، إذ إنّه ممتلئ إلى حدّ التخمة، بكلام جرى الانقلاب عليه، نطقت به مجموعة واسعة من رموز هذه الحقبة، كما هي عليه حال رئيس الجمهورية ميشال عون، على سبيل المثال لا الحصر.

 

في المبدأ، إنّ تجارب اللبنانيين مع طبقتهم السياسية تُنتج الإحباط، ويمكن اعتبارها أحد أسباب يأس فئات لبنانية واسعة من إمكان إحداث تغيير إيجابي في بلادهم، وتالياً ابتعادهم أكثر فأكثر عن العمل السياسي ومقاطعتهم لصناديق الاقتراع، وتشكيكهم بصدقية حَمَلة شعارات التغيير الجدد.

ولهذا، فإنّ التحدّي الملقى على عاتق “التغييريين” كبير جداً، إذ لا يمكن أن يكتفوا برفع الشعارات الجميلة والجذّابة والمثيرة، بل عليهم، بادئ ذي بدء، أن يثبوا، من أجل إعادة الثقة بالعمل السياسي، أنّهم، في طبيعتهم، ليسوا من هؤلاء الذين يساومون على مبدأ وطني، ويتاجرون بمصالح عليا، ويهربون من أمام التحدّيات الكبرى، ويسيل لعابهم عندما يرون “قالب الجبنة”.

 

وليس دقيقاً أنّ مشكلة لبنان تكمن في الأشخاص فحسب، بل في النهج أيضاً.

إنّ الطبقة التي وصلت إلى الحكم في لبنان كبديل تغييري من حقبة “المارونية السياسية”، اتّفقت في ما بينها على “معاداة النظام”، فالجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كانوا يتّفقون على مهاجمة ما سُمّي بـ”الصيغة”، في إشارة إلى الأسس التي بُني عليها استقلال لبنان، وعلى وجوب أن يكونوا هم البدائل للقوى والشخصيات التي كانت في السلطة، ولكنّ هؤلاء اختلفوا في ما بينهم على طريقة الحكم، وعلى طبيعة لبنان، وعلى أسس الدولة ووظائفها الحصرية، وعلى النظرة إلى علاقات لبنان الإقليمية والدولية.

 

في واقع الحال، إنّ الطبقة السياسية الحالية التي أوصلت لبنان إلى المأساة التي هو فيها، مكوّنة ممّن كانوا يزعمون أنّهم “ثوّار” و”مقاومون” و”تغييريون” و”ديموقراطيون” و”بنّاؤون”، ولكنّ كلاً منهم راح يقرأ مفاهيم الثورة والمقاومة والتغيير والديموقراطية في قواميس مختلفة لا بل متناقضة، الأمر الذي بدل أن يبني دولة أنتج مسخاً.

 

وعليه، فإنّ فتح باب الأمل على مصراعيه، يقتضي، أوّلاً، أن يُثبت حملة الشعارات التي سبق أن حملها الرئيس نبيه برّي ومن كانوا في مقامه، قبل أكثر من ثلاثين سنة، أنّهم من طينة مختلفة حقاً، من خلال تشخيص حقيقي وكامل وشجاع لسبب وصول لبنان إلى ما وصل إليه، بسبب الخضوع للسلاح غير الشرعي، وبسبب الأنانيات الشخصية والعائلية والحزبية، وبسبب رؤية الوطن من المنظار الطائفي والمذهبي، وبسبب الالتحاق بمشاريع خارجية، وبسبب التعلّق المرضي بالمناصب، وبسبب “الشبق” المرضي لجني الثروات، بصفتها المدخل الأسهل الى إشباع كلّ أنواع النزوات “المتورّمة”.

 

إنّ المخاوف التي يبديها كثيرون من إمكان أن تُرسّخ الانتخابات النيابية المقبلة الواقع الحالي، لا يعود، وفق ما يستسهل كثيرون قوله، إلى نقص في الوعي الشعبي، بل إلى نقص في وعي “التغييريين” إلى الخيبات التي عاشها اللبنانيون على أيادي حملة الشعارات الكبرى، على مدى عقود طويلة، وإلى استسهال هؤلاء إجراء انتخابات ديموقراطية في ظل قوى مسلّحة أثبتت، بكثير من الأدلّة، أنّها من أجل مصالحها تغتال وتقتل وترهّب وتُرعب ولا يردعها رادع.

 

إنّ من يطّلع على البرامج التي يطلقها “زعماء” اللوائح الانتخابية يُصاب بالذهول، فمن أمضى منهم سنوات طويلة في الحكم، لا يتوانى عن تكرار وعود طالما أنكرها “تنفيذياً”، و”يقدّ مراجل” على من يتحالف معه للعودة إلى المجلس النيابي، ومن لم يصل إلى الحكم أو أجهض سلطة كان قد أمسكها، يعيد رفع الشعارات التي فشل في تنفيذ أجزاء بسيطة منها، ومن يستعد لخوض التجربة “الجديدة” على أساس “التغيير” تجده، حتى قبل أن يصل، قد بدأ المساومة، فيُقزّم التحدّيات الكبرى، ويُعملق الصغرى، في مشهد من مشاهد “الكوميديا السوداء”.

 

لو أنّ التغيير هو ابن البراعة التعبيرية، لكان الرئيس نبيه برّي اليوم، بالاستناد إلى ما قاله قبل أكثر من ثلاثين سنة، في قائمة واحدة مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب، ولكان الرئيس ميشال عون في لائحة واحدة مع شارل ديغول، والحبل على …الجرّار.

Back to top button