علاقة غزة بعصور الانحطاط
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
العالم الذي نعيش فيه هو عالم المعرفة، وكلما قل نصيب الفرد منها ضعفت قدرته على مواجهة الواقع. كما أننا نعيش عالم الإبداع والاختراع، فكلما زاد نصيب الفرد من الحرية، المنضبطة بالطبع، زاد عطاؤه وإبداعه، وشوقه ورغبته لأي كشف جديد.
قلة نصيب دولنا من المعرفة، كما الحال مع دول كثيرة متخلفة أخرى، أدى لتورطنا في الكثير من الكوارث، وفي ندرة المفكرين العلماء «الحقيقيين» بيننا.
انغمست منذ صغرى بمآسي منطقتي، ورأيت وسمعت وقرأت عن مئات الحوادث الدموية، التي ضربت دولنا الواحدة تلو الأخرى، على مدى العقود السبعة الماضية، دع عنك ما قبلها، وما قبل قبلها، فتلك بحاجة لقلب قاسٍ وحزمة أقلام وبراميل مداد لتدوين وقائعها، علماً بأن ما فعلناه بأنفسنا هو أضعاف ما فعلناه بأعدائنا، وما أكثرهم، وما أقل حيلتنا إزاءهم!
* * *
كنت صغيراً عندما وقعت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، التي انتهت بانتصار مجموعة عصابات يهودية مسلحة، ومدربة خير تدريب، وذات قدرات علمية عالية، على جيوش قرابة سبع دول عربية، وليعلن بعدها تأسيس إسرائيل على الأرض الفلسطينية، لكني عشتها تالياً، من خلال ما رواه لنا مدرسونا الفلسطينيون، وكيف هاجر يهود أوروبا بكثافة إلى فلسطين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانوا على درجة عالية من العلم والمعرفة، بحيث قاموا ببناء الجامعة قبل المعبد والملعب، وبعد أكثر من قرن، لم نتعلم منهم شيئاً، ولا تزال كل دولنا الـ22 لا تمتلك شيئاً يقارب الجامعة العبرية، مكانة وصيتاً، وهذا يعود ربما إلى عدم وجود مكان في أدمغتنا مخصص للعلم!
ثم وقعت حرب 1956، التي وصفها البعض بالغبية، فقد كان بإمكان ناصر تجنبها، فقرار تأميم قناة السويس، الذي كان سبب الحرب، كان قراراً أخرقاً، فامتياز القناة، الفرنسي البريطاني، كان سينتهي خلال سنوات قليلة، وكان الانتظار أفضل من الحرب بكثير.
ثم تبعتها، وربما نتيجة لها، وبعد أقل من عشر سنوات حرب الأيام الستة المخجلة، التي انتصر فيها الجيش الإسرائيلي على كل جحافل جيوش مصر وسوريا والأردن والفلسطينيين، وفقدت جميعها مساحات ضخمة من خيرة أراضيها، وانتهت بنصر لم يتخيله أكثر الإسرائيليين تفاؤلاً.
كانت تلك بداية استخدام الفلسطينيين للقوة، لكن سلاحهم كان موجهاً لبعضهم البعض وللجيش الأردني، أكثر مما كان موجهاً لعدوهم التاريخي، فكانت حرب أيلول 1970، التي طحنت عظام الأمة.
ثم وقعت حرب أكتوبر 1973، التي أدت لخسائر وكوارث جديدة أكثر. وكنتيجة غير مباشرة لها وقعت الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ــ 1990) بين مختلف الفرقاء، وشاركت فيها فصائل فلسطينية عدة، ومعها قوات سورية، وأموال وأسلحة خليجية وعراقية ومصرية، وحتى غربية وإسرائيلية.
ثم وقعت جريمة العصر عام 1990 بغزو العراق للكويت، التي نتج عنها دق آخر مسمار في نعش «القومية العربية»، ثم وقعت أحداث الحرب الأهلية الجزائرية، التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف، وكثير منهم قضوا نحراً! أما حروب اليمن والسودان فلا يوجد حيز يكفي لسرد حتى نصفها. وربما كانت الحرب الأهلية في سوريا الأكثر إيلاماً، وتزامنت مع ما حصل في تونس وليبيا ومصر من قتل وتشريد في مسرحية «الربيع العربي»، ثم جاءت حرب أمريكا بوش ضد صدام عام 2003، التي نتج عنها دمار كل مؤسسات الدولة، وما تبقى فيها من مقومات، بخلاف ما فعله الإرهابيون، من مسلمين وعرب، بمختلف فصائلهم في العراق، من قتل وقصف وحرق وسبي وتشريد.
وبالتالي، فإن ما حدث خلال ذلك، وتالياً من ظهور لمنظمات إرهابية، كالقاعدة والدولة الإسلامية، لم يكن إلا امتداداً لعصور الانحطاط التي نعيشها منذ قرون عدة، وهي إفراز طبيعي «لاستمرار تخلفنا» على كل صعيد، فلم نكن نهتم بحرية الفرد، ولا برأيه، ولا بثقافته، ولا طبعاً بالفكر ولا بالمعرفة. ولم يكن «التنوير» يعني غير إنارة مصباح غرفة «النوم». وهذا يعني أن كل هذا التجاهل الرهيب والمريب لما يحدث في غزة لا يعدو أن يكون جزءاً من سلسلة تراجعات، بدأت منذ أمد طويل، وستستمر لسنوات طويلة مقبلة.