دروس من مذبحة المسيحيين في دمشق
بقلم: حمزة عليان

النشرة الدولية –

لم أستطع أن أقاوم الإغراء الذي واجهته على يد الأستاذ ضرار يوسف الغانم، فقد أهدى إليّ كتاباً صدر حديثاً في 2024 من دار نشر بريطانية تدعى «PENGUIM Randome House» وبعنوان «أحداث دمشق: مذبحة 1860 وتدمير العالم العثماني»، لذلك رحت أبحث وأقرأ وأترجم، فماذا وجدت؟

المؤلف يوجين روغان Eugene Rogan يعمل أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد ومدير مركز الشرق الأوسط بكلية «سانت أنتوني» سبق أن أصدر كتاب «سقوط العثمانيين بالحرب العظمى في الشرق الأوسط 1914-1920» وكان الأكثر مبيعاً، ترجم إلى 18 لغة. تدور أحداث دمشق التي كتبها يوجين روغان، حول حدث مروع ترك آثاراً مبرحة على الشرق الأوسط، تناول فيه المذبحة التي تعرض لها المسيحيون عام 1860 في العاصمة السورية.

ما يهمنا من الكتاب والمراجعات التي تمت حوله التوقف عند معضلة كبيرة ماثلة أمامنا اليوم في حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الإسرائيلي المحتل ضد الشعب الفلسطيني في غزة تحديداً. عن هذه الفاجعة الإنسانية يكتب المؤلف نفسه مقالاً موسعاً في صحيفة الفاينانشال تايمز «دروس من تاريخ الشرق الأوسط الحديث» يطرح فيه السؤال الصعب: كيف للمجتمعات أن تنحدر إلى العنف ومن وحي أحداث دمشق 1860 وكيف يمكن أن تتراجع عن حافة الهاوية؟

يجيب عن التساؤل والكلام منسوب إلى المؤلف «اليوم تقف إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بعد أن رفعت جنوب إفريقيا قضية تتهمها فيها بارتكاب إبادة جماعية ضد سكان غزة في أعقاب هجمات حماس المروعة في 7 أكتوبر 2023 ومهما كان الحكم النهائي للقضاة بشأن هذه الاتهامات، والذي ترفضه إسرائيل، ويرى كلا الجانبين في هذا الصراع الآن أن الآخر يمثل تهديداً وجودياً يسعى إلى إبادتهما، ونحن نتساءل: كيف يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين التغلب على الصدمات المثيرة للانقسام العميق التي سببتها الحرب بين إسرائيل وحماس للعيش في سلام كجيران».

يبدي أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد أسفه من حدوث ما يسمى لحظات الإبادة الجماعية، التي ستبقى سمة دائمة من سمات التاريخ الحديث، علماً أن المجتمعات والدول الحديثة وعلى مدى ثمانية عقود مضت، وبعد «تجريم» الإبادة الجماعية من الأمم المتحدة، حصلت حالات متكررة ومذابح أين منها أحداث دمشق عام 1865، كالمجازر والإبادة في البوسنة وراوندا ودارفور والأرمن عام 1915، وأفعال داعش مع اليزيديين في العراق والروهينغا في ميانمار واليوم في فلسطين وعلى مرأى ومسمع من العالم المتحضر بل الشريك فيه.

يستعرض الكتاب كيف استلهم الغوغاء القتلة في دمشق الحرب الأهلية في جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين، ففي لبنان كان الدروز ضد المسيحيين الموارنة، لكن في دمشق كان المسلمون مقابل كل الطوائف المسيحية. سبب مجازر 1860 في دمشق يعود إلى أنه في أربعينيات القرن التاسع عشر بدأت السلع الصناعية الأوروبية تغمر أسواق دمشق، وكان المسيحيون السوريون الذين تم تعيينهم كوكلاء لبيوت التجارة الأوروبية، هم المستفيدون الرئيسيون من الأعمال التي قوضت النساجين والتجار المحليين، وأرسلت القوى الأوروبية قناصلتها إلى دمشق لحماية مصالحها المتنامية، قام هؤلاء القناصل بتعيين مسيحيين محليين في وظائف كتابية تمنح امتيازات ضريبية وقانونية للتجار المسلمين في المدينة.

بحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، كان المسيحيون يكتسبون الثروة والنفوذ بفضل علاقاتهم الأوروبية، وتفاقمت المكاسب بسبب الإصلاحات العثمانية عام 1856 التي منحت المساواة أمام القانون للمسلمين والمسيحيين واليهود، وفجأة تخلت مجتمعات الأقليات عن مكانتها كمواطنة من الدرجة الثانية وطالبت بالمساواة مع النخب المسلمة في المدينة، لقد ولد عقدان من المكاسب المسيحية على حساب المسلمين استياء عميقاً. شكلت أحداث 1860 لحظة إبادة جماعية وكما يصفها «روغان»، وقد قام كبار الوجهاء المسلمين الذين أفزعتهم أعمال العنف ضد سكان بلداتهم المسيحيين، بتوفير المأوى للناجين، نجا نحو 85% من مسيحيي دمشق من الأحداث.

تجربة دمشق كما يعترف «روغان» في التراجع عن حافة الإبادة الجماعية تحمل دروساً مفيدة للمجتمعات الأخرى التي تتعافى من صدمات مثيرة للانقسام العميق، وإن استعادة سيادة القانون أمر ضروري، ولكن العدالة الكاملة قد تكون ضارة بقدر ما هي وهمية.

زر الذهاب إلى الأعلى