قمة ما في اليد وما ليس في اليد
بقلم: رفيق خوري
تعددت القراءات في ما صدر عن القمة العربية في البحرين، شيء من الارتياح للإجماع على مواقف تحمل الوزن العربي، وشيء من البحث خلف الإنشاء العربي الفخم عن الحاجة إلى ما هو أكثر لمواجهة التحديات، لكن القمة الـ33 مثل القمم التي سبقتها، هي مرآة تعكس حال العرب، فعلى صورة الأوضاع في الأمة تكون القمة، “ولا أحد يتوقع الإجاص من شجر الدردار”، كما يقول مثل إسباني.
والانطباع المباشر بعد قراءة البيانات هو أن القادة العرب أدركوا حدود ما في اليد لوقف الحرب على غزة وإنجاز تسوية لقضية فلسطين، فطالبوا بما ليس في اليد، وجددوا الدعوة إلى “مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين”.
وطلبوا “قوات حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى حين تنفيذ حل الدولتين”، وليس أصعب من الأمر الأول سوى الأمر الثاني، ذلك أن المنطقة ذهبت مرتين إلى مؤتمر دولي تحت عنوان البحث عن تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، مرة إلى “مؤتمر جنيف” بعد حرب 1973 للبحث في مسائل جديدة تراكمت فوق المسائل التي أحدثتها حرب1967 وبقيت بلا تسويات، ومرة إلى “مؤتمر مدريد” بعد حرب “عاصفة الصحراء” التي أخرجت فيها قوات تحالف دولي بقيادة أميركا الجيش العراقي من الكويت.
كان مناخ الوفاق الدولي سائداً بين الجبارين الأميركي والسوفياتي في تلك الأيام، لكن التسوية ظلت بعيدة، فـ “مؤتمر جنيف” جرى عقده مرة واحدة عشية عيد الميلاد عام 1973، وخطب فيه وزراء الخارجية الأميركي كسينجر والسوفياتي غروميكو والإسرائيلي أبا إيبان إلى جانب الوزيرين المصري والأردني في غياب السوري الذي بقي مقعده فارغاً ومن دون مقعد لأي ممثل فلسطيني، ثم انفردت أميركا بترتيب اتفاقات “فك الاشتباك” على جبهتي سيناء والجولان عبر “دبلوماسية المكوك” التي مارسها كسينجر.
و”مؤتمر مدريد” الذي هندسه وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر أيام الرئيس جورج بوش الأب توقفت جلساته بعد أيامه الأولى، وتحولت إلى مفاوضات ثنائية بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا والأردن الذي كان الممثل الفلسطيني ضمن وفده، ومن خارج هذه المفاوضات الثنائية برعاية أميركا جرى التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي على “اتفاق أوسلو”، ومن خلالها ومن خارجها ثم “اتفاق وادي عربة” بين الأردن وإسرائيل، وبقي الجولان محتلاً ولا يزال، وظل الجنوب اللبناني محتلاً حتى عام 2000.
وبكلام آخر فإن أميركا أصرت على أن تكون اللاعب الوحيد من دون أدوار دولية أخرى في مؤتمر أو من دون مؤتمر، وهو بالطبع ما أرادته إسرائيل. ولا تزال واشنطن مصرة على أن تلعب وحدها دور ما تسميه “السمسار الشريف”، والمناخ الدولي اليوم متوتر جداً بين الكبار إلى حد التلويح بالسلاح النووي وحرب عالمية ثالثة.
روسيا في غزو أوكرانيا تواجه حرباً بالوكالة مع الـ “ناتو”، أميركا والصين في صراع وتنافس على أمور اقتصادية وتجارية وإستراتيجية، وعلى حافة حرب حول تايوان، إذا قررت بكين استعادة الجزيرة بالقوة، والصين وروسيا في “شراكة بلا حدود”.
ومن هنا صعوبة الذهاب إلى مؤتمر دولي، والأصعب، ولو جرى التوصل إلى عقد مؤتمر، هو تحقيق تسوية على أساس حل الدولتين الذي ترفضه حكومة نتنياهو كما ترفضه “حماس” ومعها “محور المقاومة” بقيادة إيران على أساس أن المطلوب هو تحرير فلسطين كلها من البحر إلى النهر، أما تشكيل قوة حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة فإنه مهمة مستحيلة بسبب الـ “فيتو” الأميركي في مجلس الأمن، وخوف الدول على أية قوات ترسلها إلى الأرض المحتلة.
لكن قضية فلسطين ليست كل القمة العربية، فالعالم العربي، من السودان وليبيا إلى اليمن وسوريا ولبنان في حروب وأزمات عميقة، ولا حلول لهذه الأزمات في القمة، ولا قدرة بالطبع على إنهاء الحروب، وكل الممكن والمتاح هو دعوات يصعب أن تستجاب.
“دعوة الفصائل الفلسطينية إلى الانضواء تحت مظلة منظمة التحرير” قصة عمرها أعوام، وليس قليلاً عدد الاجتماعات واللقاءات والوساطات والوثائق الموقعة بين الفصائل في القاهرة ومكة وموسكو وبكين وسواها من دون أي تنفيذ، ولا أحد يعرف كيف تقوم دولة فلسطينية، بصرف النظر عن الحاجز الإسرائيلي، إذا بقي الانفصال قائماً بين قطاع غزة والضفة الغربية، وظل الانقسام العميق بين “حماس” و”فتح”.
وحتى في قمة البحرين فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يتردد في القول أمام القادة العرب إن “العملية العسكرية التي نفذتها ’حماس‘ بقرار منفرد في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وفرت لإسرائيل مزيداً من الذرائع والمبررات، كي تهاجم قطاع غزة وتمعن فيه قتلاً وتدميراً وتهجيراً”.
والمفارقة كبيرة في أمور أخرى، وحكام في عدد من الدول يوافقون على فعل ما ليس في يدهم، ويدينون ما هم مسؤولون عن حدوثه أو أقله عن السكوت عنه، ففي “إعلان البحرين” شيء مهم ولافت وهو “رفض أي دعم للجماعات المسلحة أو الميليشيات التي تعمل خارج نطاق سيادة الدول وتتبع أو تنفذ أجندة خارجية تتعارض مع المصالح العليا للدول العربية”.
أين تعمل هذه المنظمات المسلحة؟ إنها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان، ومعظمها مثل “أنصار الله” الحوثيين في اليمن وفصائل الحشد الشعبي في العراق التي تعمل في سوريا أيضاً، و”حزب الله” في لبنان والذي يقاتل في سوريا ويفتح جبهة الجنوب اللبناني لإسناد “حماس” في حرب غزة، و”حماس والجهاد الإسلامي” في غزة والضفة في ارتباط مع الحرس الثوري الإيراني، وتعمل في إطار “وحدة الساحات” وتقاتل بالوكالة عن طهران ضمن المشروع الإقليمي الإيراني.
فما معنى أن يوافق المسؤولون عن تلك الدول على “إعلان البحرين”؟ وما الجدوى من “إدانة التعرض للسفن التجارية بما يهدد حرية الملاحة والتجارة الدولية ومصالح دول العالم وشعوبه، “إذا كانت الدول العربية تتكل على أميركا وأوروبا لمواجهة الحوثيين الذين يهددون حرية الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر ويفاخرون بالرغبة في مد التهديد إلى المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط؟ أليس المطلوب العاجل هو إيجاد حلول لمشكلة حكام في دول عربية معينة لا يملكون حرية القرار، ولا يستطيعون مواجهة “الجماعات والميليشيات المسلحة”، وبعضهم يعتمد عليها؟ والمشكلة ليست فقط أن الحلول صعبة بل هي أيضاً تصرف بعضهم وكأن الأزمات هي الحلول.