ذاكرة “كوكب الشرق” تقاوم الاندثار في بغداد

النشرة الدولية –

يقاوم مقهى أم كلثوم، المسمّى تيّمناً بكوكب الشرق، الإندثار، بعدما كان ملاذاً لعشاق الموسيقى، كما هي حال المسارح وأماكن ثقافية أخرى في شارع الرشيد التاريخي في العاصمة العراقية.

لا يرتاد المقهى اليوم إلّا كبار السن من الرجال، الذين يأتون لشرب الشاب أو لعب طاولة الزهر، تحت صور آخر ملوك العراق، فيصل، الذي أطيح به في العام 1958.

ويقول طارق جميلة (70 عاما)، أحد رواد المقهى، أنّ “علاقتي بالمقهى بدأت منذ العام 1971، ولكن غاب عنه الاهتمام العام 2003 ولم يجد رواد الأمس”، مضيفاً أنّ “العديد من الشبان كانوا في السابق يمضون ساعات طويلة على وقع أغاني أم كلثوم، كأغنية “هو صحيح الهوى غلاب” و”يا ظالمني” وغيرهما”.

من جهته، يتذكّر العسكري المتقاعد يتذكر أبو حيدر أنّ “الحضور إلى هنا، كان جزءًا من تقليدنا الحياتي، وبعد تلك السنوات لم يعد أمامنا سوى هذا المقهى نلجأ إليه لنستعيد الذكريات”.

وحين كان المقهى في أوجه، كان صعباً جداً تلبية طلب الزبون بشكل سريع نظرا لكثرة الرواد. والتغيير الوحيد الذي أدخل على المقهى، هو مسجّل جديد حلّ مكان القديم الذي يعمل بأسطوانات يستغرق دورانها أكثر من ساعة، ولم يعد الأمر يتطلب سوى عامل يختار المحتوى، بدلاً من سماع هتافات الزبائن المطالبين بهذه الأغنية أو تلك.

ويشير أبو حيدر إلى أنّه “تعاقب على إدارة المقهى عدد من الأشخاص بدءًا من مؤسسها عبد المعين الموصلي”، متأسّفاً أنّ “البعض لم يبد اهتماما بها”.

ويلفت أحد رواد المقهى منذ أكثر من أربعين عاما، سعيد القيسي (65 عاما)، إلى أنّ “المقهى يقاوم الاختفاء ولم يفكر أحد بتأهيله والإهتمام بواحد من رموز بغداد التراثية والمكانية”، مؤكّداً أنّ “هذا المكان ارتبط بالذائقة الفنية الغنائية، وكان تحفة غائرة في وجدان الشباب، حيث يمتزج التراث والتاريخ والصوت الشجي”.

ولم يتخل القيسي عن المقهى رغم قدمه، “لاستعادة الذكريات مع الرفاق ليس إلا”، بحسب قوله.

وشهد أبو حيدر والقيسي ورفاقهما دخول البلاد في دوامة انعدام الأمن في العام 2003، مع بدء الغزو الأميركي للعراق لإسقاط نظام صدام حسين. ويتفق الجميع أنّ العراق “لم يعد نفسه مذ ذاك التاريخ، فالحروب توالت وأطاحت بالنظام والعادات”. حيث أغلق شارع الرشيد الذي يطلق عليه حتى اليوم “شانزيليزيه بغداد”، أمام حركة السير، وتعرض لأكثر من اعتداء كان آخرها في العام 2016، وأوقع نحو 20 قتيلا.

وعلى مقربة من مكان مقهى أم كلثوم، لا يزال هناك مبنى قديم يعرف بـ”خان المدلل”، حيث غنّت كوكب الشرق في العام 1932 أثناء زيارتها إلى بغداد، وتحول هذا المكان في ما بعد إلى محال لبيع التحف والعاديات.

من جهته، يشير أحد أصحاب هذه المحال باسم الشمري إلى أنّ “هذا المكان شيد في العام 1906 وكان مخصصاً لتجار بيع التبغ وعرف في ما بعد بخان المدلل”.

كما يجاور مقهى أم كلثوم، مقهى آخر، سمّي بالأسطورة، ربما سعيا للتناغم مع صيت المقهى الأم.

ويذكر الستيني أبو دريد أنّه “في محاولة لإنقاذ تاريخ المقهى، افتتح مقهى الأسطورة للتجديد، إذ أن القديم غادره من كان يديره ويشرف عليه”.

ويتحسر رواد مقهى أم كلثوم على ما آل إليه، فينفخ أبو حيدر دخان سجائره، الواحدة تلو الأخرى، على إيقاع أغنية “أروح لمين”، وكأن المكان يشكو قدمه وتهالكه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى